من "طوفان الأقصى" إلى "طوفان التشييع"، حاضنة المقاومة: إنّا على العهد

أولى الرسائل التي يجب أن تُقرأ بعد تشييع السيد نصرالله هي أن المقاومة قادرة على حشد تجمع جماهيري استثنائي غير مسبوق في لبنان، مع إظهار إمكانيات هائلة في التنظيم والانضباط.

  • المشهد الاستثنائي عبّر عن الثقة الكبيرة لقيادة المقاومة بجمهورها.
    المشهد الاستثنائي عبّر عن الثقة الكبيرة لقيادة المقاومة بجمهورها.

لم يكن يوم الأحد في الثالث والعشرين من شباط/فبراير يوماً لتوديع شهيد أممي كبير بحجم السيّد حسن نصرالله والسيّد هاشم صفي الدين فحسب، بل كان يوماً للاستفتاء الاستثنائي في لحظة استثنائية بكل ما للكلمة من معنى.

وإذا كان الزحف البشري غير المشهود في لبنان لتوديع القائد الاستثنائي وخَلَفِهِ إلى مثواهما الأخير، والمشي خلف جنازتيهما هو تعبير صادق عن العلاقة التي ميّزت الارتباط الوثيق بين بيئة المقاومة وقادتها لاسيّما سيّدها، حتى أضحى سيّد شهداء عصره وزمانه بلا منازع في نظرهم، فإنّ ما شهدته المناسبة، تجاوز حدود الواجب الأخلاقي والعلاقة العاطفية، ليبعث برسائل متنوعة باتجاهات مختلفة تجاوزت بدورها حدود الجغرافيا لتصل إلى كل من يعنيه الأمر وعلى أكثر من مستوى.

ولعلّ أولى الرسائل التي يجب أن تُقرأ في الداخل هي أن المقاومة قادرة على حشد تجمع جماهيري استثنائي من حيث العدد (رغم التفاوت في الأرقام والإحصائيات) غير مسبوق في لبنان، مع إظهار إمكانيات هائلة في التنظيم والانضباط شهد له الخصوم والأعداء قبل الأصدقاء.

وفي ذلك إشارة إلى أمرين أساسيين: الأول، ويتمثّل بشجاعة وجرأة قيادة المقاومة على خوض هذا التحدي بعد فترة قصيرة من الحرب الكونية هي الأقسى على المقاومة وبيئتها. والثاني، ويكمن في القدرات الهائلة على التخطيط والإعداد والتنفيذ التي أظهرتها الجهة المُنظمة ولجانها والتي تجلّت في النجاح الكبير في تنظيم مثل هذا الحدث الكبير. فما الذي يمكن استنتاجه في ضوء ذلك؟

ما شاهده العالم يعبّر بالدرجة الأولى عن الثقة المتبادلة بين المقاومة وبيئتها، فالاستفتاء يعبّر عن ثقة جمهور المقاومة بقيادتها في كل ظرف وزمان، وهذا إن دلّ على شيء، إنما يدلّ على أن تمسّك هذا الجمهور بخيارالمقاومة هو عهد والتزام، وليس مجرّد شعارات تعبوية وظرفية، بل هو ثبات وإكمال للدرب والمسيرة، وثقة مطلقة، وسير بثبات خلف القيادة الجديدة.

في الموازاة، يُعبّر المشهد الاستثنائي عن الثقة الكبيرة لقيادة المقاومة بجمهورها، وهذا ما أظهرته أيام الشدّة والحرب. واليوم، وبرغم الحملة الإعلامية والنفسية غير المسبوقة لتشويه الحقائق، والإيحاء بأن المقاومة فقدت جزءاً كبيراً من قاعدتها الجماهيرية الصلبة، فإن الوقائع أكدت المؤكّد، أن الجمهور الذي عهده قائدهم الشهيد الأقدس، أهل الوفاء، هو نجم الساحات كما أبطال المقاومة في الميدان، كلّما دعت الحاجة لإظهار ذلك. 

داخلياً، يجب أن يُستفاد من الحدث، والحضور الشعبي الضخم، كورقة قوة للدولة اللبنانية، للضغط على رعاة اتفاق وقف إطلاق النار عبر القنوات الرسمية والدبلوماسية لإجبار العدو على الالتزام ببنوده كافة. في المقابل، يجب أن لا يُفهم هدوء قيادة المقاومة ومنحها فرصة للدولة على نحو خاطئ، كما يحاول البعض تصوير ذلك من خلال الاستفزازات وحملات التحريض على المقاومة وتوهينها. فقيادة المقاومة تستند في قراراتها إلى هذا الدعم الشعبي والثقة الكبيرة التي يرفدها بها هذا التأييد. وحين تعجز الدولة عن إجبار العدوّ على الانسحاب، سيتصدّى أهل الأرض وأصحاب الحق بأنفسهم لتحرير أرضهم واستعادة أسراهم وحقوقهم، وهذا ما تكفله القوانين والأعراف الدولية والأممية.

وعليه، من المفيد لأصحاب الرؤوس الحامية، لا سيّما "السياديين" منهم، أن تبرد قليلاً، وأن تعلم بأنه وبرغم التكلفة العالية المادية والبشرية التي دفعتها بيئة المقاومة خلال الحرب الأخيرة، لن تسمح هذه البيئة بأن يتم استغلال ذلك في الداخل اللبناني لتغيير موازين القوى في المعادلة السياسية، لا سيّما أنها لا تزال ممثّلة بكتلة نيابية وازنة، وتمثيل طائفي – وفقاً لقانون الانتخابات النيابية – شبه مطلق. وعليه، لعل الحشد القياسي في التشييع المهيب، يمنح فرصة لتعقّل البعض، لما في ذلك مصلحة للجميع.

خارجياً، لا ريب أنّ العدوّ الإسرائيلي المعني الأول بالرسائل أكثر من أي طرف اَخر. ولمَ لا، وهو الذي شنّ حرباً ضروساً على لبنان وشعبه، بذرائع وأهداف متعددة، ركيزتها القضاء على المقاومة، وعزل بيئتها عنها.

وعليه، شكّل الحضور الشعبي والجماهيري في التشييع، رداً واضحاً وصريحاً على العدوّ، بأنّ جذوة المقاومة وفكرتها متأصلة في الوعي الجمعي لهذا الشعب، وأنّ أي خسائر في الأرواح والممتلكات يدفعها هؤلاء من أغلى ما يملكون، تبقى أقلّ كلفة وبما لا يُقاس مقارنة بتكلفة الخيارات الأخرى، وفي مقدمتها التطبيع ومشاريع الاستسلام.

وإذا كان التخلي عن المقاومة و"حزب الله" تحديداً أحد أهداف الحرب الرئيسية كما دعا إلى ذلك رئيس حكومة الحرب نتنياهو أثناء الحرب نفسها، فإن تهافت المؤيدين والمحبين وتسابقهم إلى مكان التشييع بأيام، وبكل الوسائل حتى سيراً على الأقدام، ومن جميع الفئات العمرية، ومن داخل الحدود وخارجها، حتى زاد عدد الدول التي قدم منها الضيوف على السبعين دولة، لا يُجدد التأييد للمقاومة فحسب، بل يُبطل سردية العدوّ بأنّ المقاومة في لبنان هُزمت، وفي المقابل، يعزز سردية أنّ المقاومة خرجت منتصرة بأحد أهم أهداف الحرب ونتائجها، وهو أنه لن تسقط لها راية، لا سيّما مع وجود حاضنة وبيئة وشعب زحف من مختلف الجهات، ليؤكّد مواصلة الدرب وإكمال المسير، مجددين البيعة والولاء، رافعين شعار: إنّا على العهد.