من الثورة إلى التغريدة: كيف يعيد الوجدان الرقمي تشكيل أدوات المقاومة؟

الدول القوية أصبحت تعتمد على اختراق العقول بدلاً من احتلال الأراضي، وأضحى الوجدان الرقمي الساحة التي يُعاد فيها تشكيل التاريخ. لكن، أي أخلاقيات تُنسب إلى وجدان صُنع ليتحوّل إلى أداة تحكم؟

  • الوجدان الرقمي وأدوات المقاومة!
    الوجدان الرقمي وأدوات المقاومة!

حين ثارت باريس غضباً عام 1789، تجلّت الثورة كإعادة تشكيل للسلطة والكلمة. كانت المشاعل تضيء دروب التمرد، والخطب الملتهبة تهزّ أركان القصور، والبيان المكتوب يُقرأ كأنه طلقة تُطلق على جدران الاستبداد. بعد مئتي عام من تلك اللحظة التاريخية، تطورت أدوات الثورات لتتجاوز الساحات المليئة بالضجيج والمشاعل التي تضيء الشوارع، لتصبح الفضاءات الرقمية هي البيئة الأكثر اتساعاً وقدرة على اختراق الحواجز المكانية.

تغريدةٌ واحدة قد تكون الشرارة التي تضيء وعي الملايين، وفيديو مصوّر على عَجل يمكن أن يقلب ميزان القوى. أصبحت الأفكار هي قوة الاحتجاج الرئيسية، تنتشر بلا توقف، بعيداً من قيود الجدران والحدود، من دون الحاجة إلى منصات مادية. تحوّل الوجدان الرقمي إلى ميدان جديد للمقاومة، حيث تُخاض المعارك بالكلمات، وتُحاصر السلطة بالخوارزميات، وتصبح الحقيقة الممنوعة أكثر سطوعاً كلما حاولت الرقابة إسكاتها. فكيف أصبح هذا الوجدان الرقمي الساحةَ الأشدّ خطورةً على المستبدين؟ وكيف تُصاغ الثورات بلغةٍ لا تخضع للسيف، بل للخوارزميات التي تحاول أن تحاصرها، فتجد نفسها أسيرةً بين يديها؟

الوجدان الرقمي، في جوهره الفلسفي، ليس مجرد تفاعل سطحي مع أدوات التكنولوجيا الحديثة، بل هو حالة وجودية جديدة تُعيد تشكيل وعي الفرد والجماعة في آنٍ واحد. إنه انزياحٌ جذري من المادي إلى الافتراضي، من المحسوس إلى المجرد، ومن الفردي إلى الجماعي.

في هذا الفضاء الرقمي، حيث تذوب الحدود الجغرافية وتتلاشى القيود الزمنية، أصبح الفرد جزءاً من كيانٍ جمعي يتجاوز ذاته الضيّقة ليندمج في وعي عالمي مشترك،  وتحوّلت المقاومة من مظاهرها التقليدية كالمظاهرات الصاخبة والاجتماعات السرية في الأماكن المغلقة، إلى ممارسة رقمية تبرز عبر تغريدات عابرة أو بث مباشر على منصات التواصل الاجتماعي.

هذا التحوّل ليس مجرد تطور تقني أو تغيير في وسائل التواصل، بل هو تغيّر جوهري في طبيعة الوعي الإنساني نفسه. فالفرد، الذي كان في الماضي محصوراً في ذاته الفردية، محدوداً بجسده ومكانه وزمانه، أصبح الآن قادراً على تجاوز هذه الحدود ليكون جزءاً من كيانٍ أكبر. إنه تحوّلٌ من الذات المنعزلة إلى الكينونة الجماعية. في هذا الفضاء الرقمي، أصبحت التغريدة صوتاً ضمن جوقة عالمية، والبث المباشر نافذةً تطل على واقعٍ مشترك يتجاوز الحدود والثقافات. 

في الحرب على غزة، تجلّت الحقيقة في مشهدها الأكثر جلاءً، حين انبثقت من عدسات الهواتف المحمولة ومرايا الشاشات الرقمية، متجسدةً في صور حية وبثوث مباشرة، كان لها أن تمزّق سُتُرَ الزيف الإعلامي، وتُسقط الأقنعة التي دأبت على تبرير العدوان تحت شعار "الدفاع عن النفس". هناك، في قلب الدمار، لم يكن المشهد خاضعاً لتأويلات البروباغندا المتواطئة، بل كان واقعاً صارخاً يعيد تشكيل الوعي الجمعي في بضع ثوانٍ؛ أجساد الأطفال الشهداء الممددة في صمتها المدوّي، المستشفيات المتهدمة وقد أضحت مقابر لمن لجأوا إليها بحثاً عن حياة، الأبنية التي سُوّيت بالأرض كأنها لم تكن يوماً موطناً للبشر. كل ذلك تحوّل من أحداث متفرقة إلى طوفان رقمي يجتاح الفضاء العام، يفرض على الضمير العالمي مواجهة نفسه، ويدفع الحكومات إلى إعادة النظر في خطاباتها، ولو من باب المناورة السياسية.

أما في لبنان، فقد كان للحرب الإعلامية بُعدٌ آخر، أكثر دقةً وأشد فتكاً، إذ تحوّلت الصورة إلى أداة مقاومة قائمة بذاتها، تُعيد تعريف مفهوم الردع النفسي.

حين أطلقت المقاومة العنان لمنظومتها الإعلامية الرقمية، تجاوز الأمر كونه توثيقاً عابراً للحظات المواجهة، ليصبح رسماً دقيقاً لمعادلات القوة؛ تحوّلت مشاهد استهداف الثكنات والمواقع العسكرية الإسرائيلية إلى ضربات استباقية في معركة الوعي، لتعيد تشكيل حدود الخوف لدى العدو، وتؤكد صورة المقاومة ككيانٍ فاعل وقادر على تغيير موازين الصراع في لحظة خاطفة. 

في مضمار الإعلام، حيث تُنسج السرديات وتُعاد هندسة الإدراك الجمعي، وجدت بعض المنابر الغربية، كـ BBC وCNN   نفسها مضطرةً إلى إعادة ضبط بوصلتها الخطابية. جاءت هذه الخطوة نتيجة لضغط الرأي العام بعد انتشار مقاطع مصوّرة كشفت تناقضاتها وعدم اتساق مواقفها.

نجحت الجماهير في التحوّل إلى جهاز نقدي لامركزي، فرضت من خلاله هذا التغيير كإملاء قسري، لتصبح رقيباً على الحقيقة وتقضي على أي محاولة لإخفائها. حوّل الناشطون الرقميون مقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال إلى حرب اقتصادية باردة، تترك تأثيراتها في الأسواق وفي الوعي الإنساني، مستخدمين منصات مثل X وإنستغرام. تحوّلت الدعوات إلى تيار جارفٍ، لم يكتفِ بإدانة التواطؤ، بل أجبر بعض العلامات التجارية الكبرى على إعادة صوغ مواقفها، خشية أن تتحوّل إلى رموز للعار في زمنٍ لم يعد يغفر للمهادنين. ومع كل نداء لسحب الاستثمارات من الشركات المتورطة في العدوان، كان الضغط الاقتصادي يتجسد كقوة مادية محسوسة، تزعزع أسس المنظومة الداعمة للاحتلال بفعل قوانين السوق الصارمة.

في عصرٍ تُدار فيه المعارك بمداد الكلمات بقدر ما تُدار بالنار والحديد، باتت الرقابة الرقمية أداةً تمارس قمعاً ناعماً، لكنها أشد فتكاً من الرقابة التقليدية، عملت الرقابة الرقمية على إعادة برمجة الوعي بدلاً من مجرد إزالة المصطلحات، وأجبرت اللغة على الانصياع لمنطق الهيمنة، لتصبح مفردات مثل "الشهيد" و"الشهادة" و"المقاومة" أهدافاً رقمية تُراقب من كثب. أصبح الحذف الرقمي آلية مُحكمة تُنفذ من خلال خوارزميات تتعرف على الكلمات ذات الطابع الثوري، فتقوم بحذفها تلقائياً، أو تقلل من انتشارها، أو تحجب الحسابات التي تروّج لها.

ولأن هذه الرقابة لا تُعلن عن نفسها، فإنها تتسلّل بصمت، فتمحو منشوراً هنا، وتُخفي وسماً هناك، وتُقصي روايةً من محركات البحث من دون أن تترك أثراً واضحاً، وكأنها تكتب التاريخ وفق رؤية من يملكون خيوط الشبكات الرقمية. لكن، كما في كل معركةٍ بين القمع والمقاومة، لم يكن للرقابة أن تمرّ من دون أن تواجه تحايلاً إبداعياً، فالمغردون الذين وجدوا أن "الشهيد" كلمة تُفضي إلى الحذف، لجأوا إلى كتابة "الـشــ-هـيـد" بأحرف متقطعة، أو استبدلوها بالرموز والصور، لتتحوّل الشهادة إلى تعبير لغوي متجدد، يتجاوز كونه مجرد مفهوم محظور في ظل الحصار الرقمي.

أما "المقاومة"، التي خضعت لمقص الخوارزميات، فقد أُعيد إنتاجها بصيغٍ بديلة، مثل "الم ق ا و م ة"، أو "R.Stand" كاختصارٍ بالإنجليزية، أو حتى عبر كلمات رمزية باتت مفهومة ضمن السياق الجمعي. عكس الصراع بين الحذف والإبداع الرقمي جوهر المواجهة بين الاحتلال والمقاومة في الفضاء الافتراضي، وكلما حاولت الأنظمة الرقمية فرض الصمت، أصرّ الناشطون على أن للكلمات حيلةً للبقاء، حتى لو كُتبت بألف شكلٍ مستحدث. أظهرت هذه الحقيقة أن الرقابة، مهما بلغت من الدقة، تبقَ عاجزةً أمام قدرة الإنسان على تطويع اللغة، وتحويل كل محاولة قمعٍ إلى فعل مقاومة جديد، يثبت أن الفكرة لا تُهزم، بل تعيد تشكيل نفسها بأساليب لا يتقنها سوى أصحاب القضية.

في زمنٍ تتغير فيه الحقائق عبر الشاشات، وتتبدل فيه القناعات بلمسة واحدة، أصبحت السيطرة مفهوماً جديداً يتغلغل في العقول عبر الأثير، يشكّل الوعي وفق رؤيته، ويحدد الاتجاهات كما يشاء.

أصبحت الدول القوية تعتمد على اختراق العقول بدلاً من احتلال الأراضي، وأضحى الوجدان الرقمي الساحة التي يُعاد فيها تشكيل التاريخ. لكن، أي أخلاقيات تُنسب إلى وجدان صُنع ليتحوّل إلى أداة تحكم؟ أي ضمير يُبنى على أسسِ البيانات الموجّهة، والمعلومات التي تخضع لمقصّ الغاية قبل أن تصل إلى أعين المتلقّي؟

لقد أوجدت الدول الكبرى طريقاً جديدة للهيمنة، تقوم على السيطرة لا بالسلاح، بل بالمعلومة، لا بالقوة، بل بالتصميم الخفيّ للواقع. إنّها هيمنة لا تُرغم، بل تُغري، لا تفرض سلطتها بالعنف، بل بالإقناع المُمنهج، حيث تغدو الأخلاق رقماً في معادلة المصلحة، وتصبح الحقيقة قابلة لإعادة التشكيل وفق الحاجة السياسية والاقتصادية. يُعاد تعريف العدل تبعاً للخوارزميات، ويُحدد الخير والشر وفق ما تقتضيه متطلبات السوق والعلاقات الدولية. في هذا العالم، تتجلى القوة في التأثير على الآخرين ليؤمنوا بجانب محدد من الحقيقة. لقد تحوّلت المنصات الرقمية إلى مرايا زائفة تعكس الحقيقة التي يريدها أصحابها، وتمنع انعكاس ما يتعارض مع سرديّاتهم. هناك، يُصنّف الألم، فيُعطى حقه إن وافق المصالح، ويُحجب إن مسّ القوى المتحكمة.

يُزرع التعاطف حيث يريد المهندسون الرقميون، ويُطمس حيث يهدد ميزان القوى. أصبح الوجدان الرقمي مشروطاً، ينطلق بل من برمجةٍ مسبقة، حيث تتحوّل العدالة إلى محتوى، والمأساة إلى ترند، والحقيقة إلى سلعة تُباع لمن يدفع أكثر. في ظلّ هذه الهيمنة، لا يُقاس النفوذ بعدد القواعد العسكرية، بل بعدد العقول التي تؤمن بما تريده القوة الناعمة أن تؤمن به. وما أشدّ المفارقة حين يصبح الإنسان، بوعيه الجمعي، شريكاً في قيوده، حين يدافع عن روايةٍ لم يخترها، ويصدّق حقيقة صُنعت له بعناية، ويُهاجم كل من يُحاول اختراق الفقاعة المعلوماتية التي يعيش فيها.

تعد المقاومة الرقمية مساراً متجدداً يتكيف مع التغيرات في أساليب القمع، متجاوزة حدود المنشورات المحذوفة والحسابات المحجوبة. إنها استراتيجيا تقوم على مناورة السلطة في معاقلها، فتبتكر رموزاً بديلة حين يُحذف المعنى، وتلجأ إلى التورية حين يُمنع التصريح، وتصوغ معاجمَ جديدة تتسلل عبر ثغرات الرقابة، لتصبح المفردات المحظورة كياناتٍ زئبقية، تنزلق من قبضة الخوارزميات، وتعيد إنتاج ذاتها بصيغٍ تحاكي اللاوعي الجمعي من دون أن تخضع للمنطق الحرفي للحذف.

إن فلسفة المقاومة الرقمية تقوم على مبدأ أن كل محاولةٍ للمحو ليست إلا تأكيداً لفاعلية ما يُراد إسقاطه، وكل تضييقٍ على الحقيقة يُنتج انفجاراً مضاعفاً في الوعي الجمعي. الكلمة التي تُمنع وتحظر تُصبح أيقونةً، والصوت الذي يُحجب يتحوّل إلى صدى يتردد في كل بقعةٍ لا تطالها أعين الرقيب. بهذا المعنى، لا تقتصر المقاومة الرقمية على حرية التعبير، بل تشارك بفاعلية في إعادة بناء مفهوم السلطة، حيث يتحوّل الخاضعون للمراقبة إلى صُنّاعِ واقعٍ بديل، يُعيدون فيه تعريف الممكن والممنوع، ويحوّلون الرقابة من أداةِ قمعٍ إلى محفّزٍ على الإبداع في ابتكار سُبلٍ لا نهائيةٍ لاختراق الجدران الذهنية قبل الإلكترونية.