من دون سيادة، كل النقاش عبث
هل الأولوية اليوم للدخول في سجالات داخلية حول من يحمل السلاح ومن لا يحمله، أم أن الأولوية الحقيقية هي استكمال معركة السيادة؟
-
السيادة هي أساس وجود الدولة وركيزة استقلالها (أرشيف).
في خضم النقاشات السياسية المتكررة في لبنان، يبرز شعار "حصرية السلاح بيد الدولة" كعنوان يُرفع في كثير من المناسبات كأنّه المدخل السحري لبناء الدولة القوية والحديثة. قد يبدو هذا الشعار من الناحية النظرية براقاً وجذاباً وضرورياً لإقامة دولة القانون والمؤسسات، لكن، وبعيداً عن البهرجة اللفظية، يطرح الواقع أسئلة لا يمكن تجاوزها: كيف نتحدث عن الحصرية فيما سيادة الوطن نفسها ما زالت منتهكة؟ وكيف نضع العربة أمام الحصان ونتجاهل أن الأولوية تكمن في استعادة السيادة قبل أي شيء آخر؟
السيادة في معناها الجوهري ليست كلمة للاستهلاك السياسي، بل هي أساس وجود الدولة وركيزة استقلالها. عندما تكون الأرض محتلة والحدود مخترقة والأجواء منتهكة يومياً، تصبح السيادة مثقوبة، أيّاً كانت الشعارات المرفوعة، فما قيمة أن نتحدث عن تنظيم السلاح أو حصره إذا كان العدو يتصرّف وكأن الوطن ساحة مفتوحة لتحركاته العسكرية والأمنية؟
لبنان اليوم يعيش هذه المعضلة بكل تفاصيلها، فالاحتلال الإسرائيلي ما زال يتمدد على أجزاء من الأرض اللبنانية، وأطماعه في المياه والنفط معلنة، فيما طائراته لا تكاد تفارق أجواءنا. هذا كله يحصل فيما يصرّ البعض على جعل "السلاح" العنوان الأول والأكبر للنقاش الداخلي، متغافلين عن السؤال الأهم: من يردع الاحتلال؟ ومن يحمي السيادة؟
لا خلاف على أن الدولة هي المرجع الأعلى وصاحبة الحق الحصري في امتلاك القوة الشرعية، لكن السؤال الواقعي هو: هل تملك الدولة اللبنانية، في ظل أوضاعها الاقتصادية والسياسية والمؤسساتية، القدرة على القيام بمفردها بمهام الدفاع والردع أم أن المقاومة، بما تملكه من خبرة وإمكانات، ما زالت تشكّل حاجة وطنية لحماية الأرض والناس إلى حين استكمال مقومات الدولة القادرة؟
إن المطالبة بحصرية السلاح في ظروف كهذه تشبه إلى حد بعيد من يناقش بناء الطابق الثاني من بيت لم يكتمل بعد أساسه، فالأساس هو السيادة. إن لم تُحفظ وتُحمَ بشكل كامل، فإن كل النقاشات الأخرى تصبح ترفاً سياسياً قد يُستهلك على المنابر الإعلامية، لكنه لا يغيّر شيئاً في الواقع الميداني ولا في موازين القوى.
الأولوية التي يجب أن ينشغل بها الخطاب السياسي في لبنان ليست رفع الشعارات ولا تسجيل المواقف، بل وضع خطة وطنية متكاملة لاستعادة السيادة وبسطها على كامل الأرض. هذه الخطة لا تعني فقط مواجهة الاحتلال، بل تشمل أيضاً تعزيز الجيش، وتطوير قدراته، وبناء اقتصاد متماسك يحصّن القرار السياسي، وتحرير الدولة من الضغوط الخارجية. عندها يصبح النقاش حول السلاح طبيعياً، ومطلوباً أيضاً، لأنه يأتي في سياق دولة قوية تستطيع استيعاب كل عناصر القوة في إطارها الشرعي.
لكن عندما يُرفع الشعار قبل أوانه، يُخشى أن يتحول إلى أداة ضغط داخلي بدل أن يكون رؤية وطنية جامعة. يصبح مادة للانقسام بدل أن يكون مدخلاً للحوار. والأسوأ، أن يتحول إلى رسالة للخارج أكثر مما هو مطلب داخلي، وكأن أصحاب الخطاب يريدون أن يثبتوا ولاءً لمشاريع سياسية تتجاوز المصلحة الوطنية!
السيادة لا تُبنى بالشعارات، بل بالتضحيات والإرادة، والجنوب اللبناني شاهد على ذلك، حيث تسقط الدماء الزكية في مواجهة الاحتلال، وهي الدماء التي صنعت أولى اللبنات في صرح السيادة. واليوم، إذا أردنا حقاً أن نبني دولة سيدة، فعلينا أن نحافظ على هذه التضحيات، وأن نرتّب أولوياتنا: الأرض أولاً، السيادة أولاً، وبعدها يأتي كل ما عدا ذلك.
إن النقاش حول السلاح ليس محرّماً ولا مستحيلاً، لكنه يجب أن يكون في لحظته الصحيحة؛ لحظة تكون فيها الدولة قادرة بالفعل على حماية مواطنيها وردع عدوها وصون سيادتها. أما أن نستعجل النقاش ونرفع الشعارات بمعزل عن الحقائق الميدانية، فذلك يشبه من يعلن انتهاء المعركة فيما الحرب ما زالت قائمة.
لهذا، يبقى السؤال الجوهري الذي ينبغي لكل لبناني أن يطرحه على نفسه: هل الأولوية اليوم للدخول في سجالات داخلية حول من يحمل السلاح ومن لا يحمله، أم أن الأولوية الحقيقية هي استكمال معركة السيادة؟ الجواب واضح لمن يريد أن يرى: من دون سيادة، لا قيمة لأي شعار. ومن دون أرض مصونة، تبقى الدولة نفسها مهددة في وجودها.