من يتلاعب بأعصاب اللبنانيين ويزوّر الحقائق؟
لم تعد المعركة في لبنان محصورة في الحدود الجنوبية، بل أصبحت داخل كلّ هاتف. وإذا كان هذا ما ظهر في منصة واحدة هي "إكس"، فماذا عن المنصات الأخرى مثل فيسبوك وإنستغرام وتيك توك؟
-
من يتلاعب بأعصاب اللبنانيين؟
كشف التحديث الأخير على منصة "إكس" حقيقة صادمة لم يتوقّعها أحد: كثير من الحسابات التي تهاجم اللبنانيين، وتشتم بلدهم، وتحرّض على الفتنة، ليست لبنانية ولا حتى بشرية، بل جزء من شبكات واسعة من الروبوتات واللجان الإلكترونية المنتشرة حول العالم. جاء هذا الكشف عن طريق الصدفة، بعدما أتاح التحديث الجديد للمستخدمين رؤية الموقع الفعلي للجهاز الذي يدير الحساب، لا الموقع الذي يكتبه المستخدم في خانة التعريف.
يرى خبراء الإعلام الرقمي أنّ التحديث صُمِّم بالأساس لكشف شبكات التأثير في الرأي العامّ الأميركي، لكنه فجّر في طريقه فضيحة عالمية، خصوصاً في لبنان. فبمجرّد صدور التحديث، بدأ اللبنانيون بفحص الحسابات المثيرة للجدل داخل البلاد، وكانت المفاجأة قاسية: حسابات تدّعي أنها "سيادية" أو "ثورية"، وتهاجم الجنوب والمقاومة، تبيّن أنها تُدار من تركيا وقبرص وبريطانيا. وحسابات أخرى تُشعل الخطاب الطائفي بين اللبنانيين تبيّن أنّ إدارتها من "إسرائيل" وألمانيا وبولندا.
كذلك ظهرت مئات الحسابات التي تزعم أنها من "الشمال" أو "بيروت" وتحرّض بشكل ممنهج ضدّ النازحين السوريين عبر روايات مختلقة وجرائم وهمية، ليتبيّن في النهاية أنها تُدار من دول لا علاقة لها بلبنان على الإطلاق.
لكنّ الأخطر من كلّ ما سبق أنّ آلاف الحسابات التي تهاجم الجيش اللبناني أثناء تصدّيه للاعتداءات على الحدود، وتشيطن المقاومة، وتصف المتضامنين مع الجنوب بأنهم "عملاء"، تبيّن أنها تُدار بشكل مباشر من داخل "إسرائيل"، وتحديداً من الوحدة 8200، المتخصصة بالحرب السيبرانية وإدارة الحملات النفسية. وهذه الوحدة معروفة منذ سنوات باستهداف الداخل اللبناني عبر حملات منظّمة تهدف إلى فصل الجنوب عن بقية البلاد، وضرب الثقة بالجيش، وتفكيك بيئة المقاومة، وتأليب الطوائف ضدّ بعضها، وتحويل ملف النازحين إلى قضية قابلة للاشتعال، ونشر روايات اليأس والانهيار.
الأسماء التي تبدو "لبنانية" مثل "لبناني حرّ"، "بيروتي أصيل"، "طرابلسي وطني"، "شيعي مقهور"، "ماروني غاضب"، لم تكن سوى واجهات لحسابات تُدار من غرف عمليات متخصصة بتحليل اللهجات اللبنانية وتزويرها بهدف ضرب لبنان من الداخل، فيما تُكمِل الصواريخ والطائرات ضربه من الخارج.
وبالتدقيق في مضمون هذه الحسابات، يتبيّن أنّ الغالبية العظمى منها تعتمد خطاباً واحداً: التحريض الطائفي، الهجوم على الجيش، شيطنة المقاومة، السخرية من صمود الجنوب، الدعوة إلى انسحاب الدولة من الحدود، تصوير النازحين كعدو، نشر اليأس، واستثمار انفجار المرفأ لإشعال الفتنة، وخلق روايات متضاربة حول الرئاسة والحكومة. ومجمل هذا النشاط ليس لبنانياً، بل جزء من مشروع خارجي تقوده جهات أبرزها "إسرائيل".
الصورة التي تكشّفت خلال ساعات قليلة كانت كافية لتُظهر أنّ جزءاً كبيراً من السجالات اليومية في لبنان ليس خلافاً داخلياً طبيعياً، بل نتاج حملات نفسية ممنهجة تهدف إلى زرع الكراهية والصدام الأهلي. فالعدو الذي فشل منذ أربعة عقود في دخول الجنوب بالدبابات، يحاول اليوم الدخول عبر الهواتف. والذي عجز عن كسر الناس بالقصف، يحاول كسرهم بالكلمة. والذي لم يستطع احتلال الأرض، يحاول احتلال الوعي.
لم تعد المعركة في لبنان محصورة في الحدود الجنوبية، بل أصبحت داخل كلّ هاتف. وإذا كان هذا ما ظهر في منصة واحدة هي "إكس"، فماذا عن المنصات الأخرى مثل فيسبوك وإنستغرام وتيك توك؟
إن كنت تظنّ أنّ كلّ هذا الضجيج اليومي من الشتائم والتحريض والكراهية هو "نبض لبناني"، فربما أنت تتفاعل مع مشروع كامل صُمّم خارج لبنان، هدفه تفكيك البلاد، كسر الجيش، عزل الجنوب، ضرب المقاومة، ودفع اللبنانيين نحو حرب أهلية جديدة، فيما يريد أصحاب هذا المشروع أن تظنّ أنك أنت صاحب هذا الرأي.