مناقشة هادئة لخيار حكومة نواف سلام الاستراتيجي
يُنظر إلى سلاح حزب الله، من قبل مؤيديه، على أنه الضامن الوحيد لحماية لبنان من العدوان الإسرائيلي، وخاصة في ظل غياب قدرة الجيش اللبناني على مواجهة التهديدات الإسرائيلية.
-
أزمة حصر السلاح في لبنان هي أزمة ثقة في المبادرات الخارجية قبل أن تكون أزمة سلاح (أرشيف).
لا تُختزل أزمة حصر السلاح في لبنان، التي تُطرح بقوة في جدول الأعمال السياسي الداخلي والإقليمي، في بعدها الأخلاقي المرتبط بوجود أرض لبنانية لا تزال تحت الاحتلال الإسرائيلي، وإن كان هذا البعد محوريًا في تغذية الجدل حول شرعية امتلاك حزب الله لسلاحه.
فهناك بعد أعمق وأكثر خطورة، يتمثل في حالة "الغشاوة" التي تعتري بصيرة وعقول العديد من المسؤولين اللبنانيين، الذين يراهنون، أو يوهمون أنفسهم بالرهان، على "حسن نيات" الوسيط الأميركي في الملف اللبناني، في الوقت الذي تُظهر فيه أفعال هذا الوسيط، وخاصة في الساحة الفلسطينية، عكس ذلك تمامًا. إن هذه المراهنة تُشكل وهمًا استراتيجيًا قد يدفع بالبلاد إلى مزالق خطيرة، ولا سيما في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة في المنطقة.
لقد دخل لبنان مرحلة جديدة وحساسة في ملف حصر سلاح حزب الله، الذي يُوصف بأنه "الجرح المفتوح في جسد الدولة منذ عقود". وتشير التطورات الأخيرة إلى تكثيف الضغوط الدولية، وخاصة الأميركية، من أجل تسريع وتيرة تنفيذ هذا الملف. فقد أعلن رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام تكليف الجيش بوضع خطة لحصر السلاح بيد الدولة بحلول نهاية العام الحالي.
ويأتي هذا القرار في سياق تقارير تشير إلى أن الحكومة اللبنانية أقرت الأهداف الواردة في "الورقة الأميركية" لنزع سلاح حزب الله وتثبيت وقف إطلاق النار مع "إسرائيل". هذه "الورقة الأميركية" تُبرز الموقف الأميركي بوصفه "محرّكاً أساسياً" للملف، حيث ترى واشنطن أن اللحظة الراهنة، بعد تصفية أغلب قيادة الحزب وقصف المنشآت، هي المناسبة لفرض نزع السلاح. إن هذا التزامن بين الضغط الأميركي على لبنان لحصر السلاح، وبين الدعم غير المحدود الذي تقدمه الولايات المتحدة لـ"إسرائيل" في عدوانها على قطاع غزة، يشكل تناقضًا صارخًا يكشف حقيقة الموقف الأميركي.
ففي الوقت الذي تُقر فيه الحكومة اللبنانية أهداف ورقة أميركية تدعو إلى نزع سلاح المقاومة، تفتح أبواب الجحيم، للمرة الألف، على الفلسطينيين في غزة. تُواصل الولايات المتحدة تقديم الدعم العسكري والدبلوماسي اللامحدود لـ"إسرائيل"، التي ترتكب جرائم حرب وحصارًا إباديًا بحق الشعب الفلسطيني، من دون أن تُقدم على أي خطوة جادة لوقف هذا الإبادة. هذا الدعم الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، يُشكل "تبريكًا" و"تشجيعًا" صريحين للعدوان الإسرائيلي، كما يُمكن وصفه من منظور الضحية.
إن الموقف الأميركي، الذي يُطالب لبنان بنزع سلاحه في الجنوب، في مقابل دعمه الكامل لدولة تحتل أراضي وتُمارس الإبادة الجماعية ضد شعب آخر، هو موقف منافق ويفتقر إلى أي مصداقية أخلاقية أو سياسية. كيف يمكن لدولة تُبارك الإبادة في غزة أن تكون وسيطًا نزيهًا في ملف أمني حيوي ومتعلق بالسيادة الوطنية في لبنان؟
إن الرهان على حسن نية هذا "الوسيط" هو، في جوهره، تجاهل لقواعد اللعبة الجيوسياسية. فالولايات المتحدة لا تتحرك بناءً على مبادئ حقوقية أو إنسانية، بل بناءً على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. ومصلحتها تكمن في إضعاف أي قوة مقاومة للهيمنة الإسرائيلية والأميركية، وحزب الله، بوصفه أحد أبرز هذه القوى، يُعدّ عقبة في طريق هذه الهيمنة. لذلك، فإن الضغط على لبنان لنزع سلاح حزب الله هو جزء من استراتيجية أوسع لإعادة تشكيل التوازنات في الشرق الأوسط لمصلحة الحلفاء الأميركيين.
إن الحديث عن "حصر السلاح بيد الدولة" هو تغطية لمطلب محدد هو نزع سلاح حزب الله، الذي يُشكل القوة العسكرية الأبرز خارج المؤسسة العسكرية الرسمية. وقد استُثني سلاح حزب الله سابقًا من المصادرة باعتباره "قوة مقاومة" ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهو المبرر الذي لا يزال الحزب يُكرّسه، وتحول خطابه لاحقًا إلى اعتبار السلاح "دعامة أساسية لقوة وأمان لبنان".
يُنظر إلى سلاح حزب الله، من قبل مؤيديه، على أنه الضامن الوحيد لحماية لبنان من العدوان الإسرائيلي، وخاصة في ظل غياب قدرة الجيش اللبناني على مواجهة التهديدات الإسرائيلية. وقد شكّل هذا الملف أحد أبرز الملفات المثيرة للجدل في البلاد، لما له من تأثير مباشر على الأمن والاستقرار. ورغم أن بعض المسؤولين اللبنانيين قد يقتنعون بأن لا انسحاب إسرائيليًا تامًا من الأراضي اللبنانية ولا إعادة إعمار قبل حصرية السلاح بيد الدولة، إلا أن الواقع على الأرض، وخاصة في غزة، يُثبت عكس ذلك. فالعدوان الإسرائيلي لا يتوقف، والدعم الأميركي لا ينضب، بغض النظر عن أي تسوية أمنية في جنوب لبنان.
إن تكليف الجيش اللبناني بوضع خطة لحصر السلاح هو خطوة رسمية تُدخل الملف في مرحلة التنفيذ. لكن هذه الخطوة تُقابل برفض قاطع من حزب الله، الذي اعتبر قرار تكليف الجيش بوضع خطة نزع السلاح "خطيئة كبرى" تُجرّد لبنان من سلاح مقاومة العدو الإسرائيلي. هذا الرفض يُظهر أن الملف ليس مجرد إجراء إداري، بل هو صراع على جوهر المشروع السياسي والدفاعي في لبنان. وتحويل سلاح حزب الله من رمز للمقاومة إلى "أداة خارجية وعبء أمام استقرار الدولة" في نظر البعض، يعكس الانقسام العميق في المجتمع اللبناني حول دور هذا السلاح.
في الختام، فإن أزمة حصر السلاح في لبنان هي أزمة ثقة في المبادرات الخارجية قبل أن تكون أزمة سلاح. إن المراهنة على وساطة أميركية تُبارك الإبادة في غزة هي مراهنة على وهم. يجب على المسؤولين اللبنانيين أن ينظروا إلى أفعال الدول الكبرى، لا إلى أقوالها. فالمصلحة الوطنية الحقيقية تقتضي الحفاظ على كل وسيلة ردع قادرة على حماية الأراضي اللبنانية، في ظل نظام إقليمي ودولي لا يحترم القانون ولا يُطبّق المعايير بعدل. إن تفكيك منظومة المقاومة في لبنان، تحت شعار "حصر السلاح"، في الوقت الذي تُدمر فيه غزة، ليس فقط إضعافًا للأمن الوطني، بل هو أيضًا خيانة للقضية الفلسطينية ورمز للانبطاح أمام هيمنة لا تعرف الرحمة.