مواجهة المشروع الصهيوني الجديد: عودة معادلة المقاومة كقوة مؤسسة للسيادة العربية

الصراع لن يُحسم في غرف التفاوض، ولا في بيانات العواصم، بل في تلك المساحة التي تتقاطع فيها إرادة الشعوب مع وعي المقاومة ومعادلات الردع.

  • المقاومة قادرة على تعطيل المشروع الصهيوني من جذوره (أرشيف).
    المقاومة قادرة على تعطيل المشروع الصهيوني من جذوره (أرشيف).

في اللحظة التي ينهار فيها النظام الإقليمي القديم وتتآكل المسلّمات التي حكمت الشرق الأوسط لعقود، يعمل الكيان الصهيوني على إعادة هندسة قواعد اللعبة بالكامل. فبعدما كان مبدأ "الأرض مقابل السلام" هو جوهر أي مفاوضات عربية – إسرائيلية منذ اتفاقيات القرن الماضي، باتت "إسرائيل" اليوم تدفع نحو قلب المعادلة: السلام أولاً، ثم الاعتراف، ثم العلاقات الكاملة، وبعد ذلك فقط يمكن التفكير في استعادة الأرض العربية.

وهذا الانقلاب ليس مجرد تفصيل تفاوضي، بل هو تحوّل جذري في بنية الصراع وفي تصور "إسرائيل" لذاتها ولمحيطها وللمعادلات التي تحكم القوة في المنطقة.

إن الأخبار التي تسربت عن المحادثات بين سوريا والكيان الصهيوني تكشف بوضوح هذا التحول. فالكيان الذي احتفظ بالجولان منذ عقود قام بتوسيع احتلاله في سوريا، يجد اليوم فرصة لفرض منطق جديد. فالجولان خارج أي عملية تفاوضية، أما الأرض التي احتلها منذ وصول الحكومة الجديدة فهي ليست موضوعاً للتفاوض إلا بعد تطبيع كامل، واعتراف كامل، وعلاقات مفتوحة. أي أن كيان الاحتلال يريد أن يحصل على الجائزة قبل المباراة، وأن ينال الشرعية قبل أن ينسحب من أرض ليست له. وهذا المنطق لم يكن ليظهر لو لم يشعر كيان الاحتلال بأن لحظة إقليمية مضطربة تسمح له بإعادة تشكيل مفهوم "السلام" بما يخدم مشروعه التوسعي.

إن هذه الانعطافة ليست منفصلة عن المشهد الأوسع الذي تعيشه المنطقة، حيث تحاول "إسرائيل" استغلال فوضى التحولات، وتراجع بعض الأنظمة، وضغط القوى الدولية لإعادة بناء نظام إقليمي يكون فيه الكيان الوحيد الذي لا يتنازل عن شبر واحد من الأراضي المحتلة، بينما يطلب من الآخرين أن يقدموا كل شيء تحت شعار "الاستقرار" أو "التنمية".

هكذا يتحول الصراع من مواجهة بين احتلال وشعوب تقاومه إلى تفاوض غير متوازن تسعى فيه "إسرائيل" إلى فرض معادلة التفوق المطلق.

غير أن هذه القراءة الصهيونية، مهما بدت واقعية في عيون القوى الكبرى، تتجاهل العامل الوحيد الذي لم تستطع تل أبيب التحكم فيه وهو إرادة الشعوب. فالتطبيع مهما أُلبس لبوس المصالح يبقى سقوطاً أخلاقياً قبل أن يكون سقوطاً سياسياً. ومن يقترب من التطبيع مع الكيان الصهيوني في لحظة يرتكب فيها إبادة جماعية في غزة، إنما ينحاز إلى الجريمة ذاتها، ويعطي الشرعية لآلة القتل التي لم تفرّق بين طفل وامرأة ورجل مسنّ. وهذا الإدراك الشعبي لم يعد شعوراً عاطفياً، بل تحوّل إلى وعي سياسي يرفض أي محاولة لخلط الأوراق أو تزييف المعاني.

في المقابل، طفا على السطح في لبنان نموذج مضاد لهذه المعادلة، نموذج رأى ويرى في المقاومة جزءاً من هندسة السيادة وليس خروجاً عليها. فحين يتحدث الشيخ نعيم قاسم، الأمين العام لحزب الله، عن معادلة "الجيش والشعب والمقاومة"، فإنه لا يطرح شعاراً، بل يؤسس لفلسفة كاملة. هذه الفلسفة تقول إن السيادة ليست قراراً يُكتب على الورق، بل منظومة قوة متكاملة، وإن استعادة الأرض لا تتم عبر رسائل دبلوماسية متبادلة، بل عبر قدرة فعلية على منع الاحتلال من فرض شروطه. هذا ما فهمه لبنان في تجربته الطويلة مع "إسرائيل"، ولهذا كان تحرير الجنوب عام 2000 أكبر برهان على أن ميزان القوة الحقيقي ينبع من الإرادة الشعبية والتنظيم المحكم والسلاح الفعّال، لا من طاولات التفاوض المعلقة.

لقد رسم حزب الله معادلته بوضوح، فالكيان لا يعترف إلا بما يُفرض عليها بالقوة. هذا ليس تقديراً أيديولوجياً، بل قراءة في صلب التاريخ الصهيوني. فـ"إسرائيل" لم تنسحب من جنوب لبنان لأن التفاوض أقنعها، بل لأنها عجزت عن البقاء. والاحتلال لا ينهار عندما نفاوضه، بل عندما نكسر قدرته على فرض معادلته. وهذا المعنى يكتسب وزناً مضاعفاً اليوم، في ظل إصرار "إسرائيل" على صياغة معادلة سوريا نفسها في لبنان، معادلة قائمة على التطبيع مقابل الأرض، لا الأرض مقابل السلام.

اللافت أن هذا المنطق الإسرائيلي، لو قُبل، فإنه لن يقتصر على سوريا ولا على لبنان، بل سيمتد ليصبح القاعدة الجديدة للتعامل مع "إسرائيل". سيصبح التطبيع شرطاً أولياً قبل أي نقاش حول الأراضي المحتلة في الجولان، أو شبعا، أو الضفة الغربية، ومن ثم فيما بعد في العلاقة مع السعودية وغيرها من دول المنطقة. وستصبح الاعترافات العربية المتتالية مجرد طبقات تضيفها "إسرائيل" إلى جدار شرعيتها الزائف. هنا تظهر خطورة المرحلة، فالقضية لم تعد قضية أرض، بل قضية سردية كاملة يسعى كيان الاحتلال لفرضها على المنطقة، سردية تقول إن الاحتلال ليس احتلالاً، وإن ما فقدته الشعوب بالقوة يمكن أن تُجبر على التخلي عنه سياسياً.

لكن المقاومة، بمعناها العميق، تأتي لتقلب هذه السردية. فالمقاومة ليست مجرد عملية عسكرية، بل هي قدرة على تعطيل المشروع الصهيوني من جذوره، عبر فرض معادلة مضادة فالقوة مقابل القوة، والسيادة مقابل السيادة، والفعل مقابل الفعل. وهذا ما تشير إليه تجربة لبنان؛ إذ لم يعد ممكناً تخيّل أي مفاوضات مع "إسرائيل" من دون أخذ معادلة المقاومة بعين الاعتبار. هي ليست خيار حزب أو جماعة، بل أصبحت جزءاً من تركيب المنظومة اللبنانية نفسه، وسبباً رئيسياً في الحفاظ على وحدة أراضيه، ومنع "إسرائيل" من التعامل معه بالطريقة التي تتعامل بها مع الأنظمة الضعيفة.

في لحظة كهذه يصبح التماسك اللبناني ضرورة استراتيجية، لا مجرد أمل سياسي. فـ"إسرائيل" لا تخشى لبنان حين يكون فاقداً لبوصلته الداخلية، بل تخشاه عندما يلتف حول معادلة واحدة تمنع اختراقه سياسياً وأمنياً وجغرافياً. وإذا كانت المحادثات السورية-الإسرائيلية قد انتهت إلى طريق مسدود، فإن لبنان يدرك أن أي تفاوض مشابه، إذا حصل، سيعيد إنتاج المأزق ذاته، بل ربما بصورة أشد خطورة. ولذلك فإن الوحدة اللبنانية ليست مسألة داخلية، بل هي جزء من المعركة الجيوسياسية على المستقبل.

أما المشهد الأكثر عمقاً، فهو ما يتجاوز السياسات اليومية نحو إدراك أعمق للصراع. فـ"إسرائيل" ليست مجرد كيان يبحث عن أمن، بل هي مشروع استعماري يسعى لإعادة تشكيل المنطقة وفق احتياجاته، وهذا المشروع يقوم على ثلاثة أعمدة هي التفوق العسكري، والتطبيع السياسي، وترويض الوعي العربي. أما المقاومة بمعناها الواسع فهي تفكيك لهذه الأعمدة الثلاثة. إنها تكسر التفوق العسكري بالردع، وتمنع التطبيع بإعادة الاعتبار إلى الأرض والشعب، وتضعف محاولة ترويض الوعي عبر الحفاظ على الذاكرة الجماعية.

وهذا ما يجعل التطبيع مع "إسرائيل" في زمن الإبادة ليس فقط سقوطاً أخلاقياً، بل سقوطاً في فهم طبيعة الصراع. فمن يطبّع مع القاتل، وهو الذي مارس الإبادة الجماعية ضد شعوب المنطقة كاملة، يعترف له ضمنياً بحقه في الدم، ويمنحه شرعية سياسية للجريمة. والسقوط الأخلاقي هنا ليس تفصيلاً؛ إنه يعكس انهياراً في مبدأ العدالة ذاته. فالدول التي تفقد قدرتها على التمييز بين الجاني والضحية لا تستطيع أن تحكم شعوبها، لأنها تفقد أهم عناصر بقائها وهو القدرة على تمثيل الضمير العام.

إن المعركة اليوم ليست على أرض هنا أو حدود هناك؛ إنها معركة على تعريف من يقرر مستقبل المنطقة. هل هي الشعوب التي قدّمت دماءها في فلسطين ولبنان واليمن؟ أم الأنظمة التي تبحث عن خلاصها في أبواب تل أبيب وواشنطن؟ الجواب لا يحتاج إلى كثير من التأمل. فالتاريخ في هذه المنطقة لم يكتبه ملوكٌ ولا حكام، بل كتبته الشعوب حين قررت أن الاحتلال ليس قدَراً. وهذا ما سيعيد تشكيل المرحلة المقبلة، مهما بدت لحظة القوة الصهيونية الآن طاغية.

الكيان الصهيوني يستطيع أن يفرض شروطاً على الأنظمة، لكنه لا يستطيع أن يفرضها على الشعوب. يستطيع أن يطلب التطبيع من حكومات، لكنه لا يستطيع أن ينتزع قبولاً شعبياً يُعيد له ما فقده من شرعية في غزة. يستطيع أن يسرّب شروطه إلى الإعلام، لكنه لا يستطيع أن يغير حقيقة أن الكيان الذي يطلب "سلاماً كاملاً" بينما يرتكب مذابح، هو كيان فقد أي إمكانية لأن يكون جزءاً طبيعياً من المنطقة.

ولهذا، فإن الصراع لن يُحسم في غرف التفاوض، ولا في بيانات العواصم، بل في تلك المساحة التي تتقاطع فيها إرادة الشعوب مع وعي المقاومة ومعادلات الردع. وفي تلك المساحة وحدها سيكون مستقبل الشرق الأوسط مرسوماً.