هادي نصر الله.. طائر أيلول بطل روايات غسان كنفاني

يبدو أن "هادي" كان يؤمن بالحكمة القديمة التي تقول: " من الضرورة أن يموت بعض الناس، ليعيش بعضهم الأخر"، والضرورة في الإيمان هنا كانت ضرورة في نفسها لا خياراً.

  • هادي نصر الله.. طائر أيلول بطل روايات غسان كنفاني
    هادي نصر الله.. طائر أيلول بطل روايات غسان كنفاني

لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟، تلك كانت الجملة الأخيرة على لسان أبو الخيزران في رواية "رجال في الشمس" للكاتب الشهيد غسان كنفاني، وكان غسان بهذه الجملة يقرع جدران الوعي في عقل القارئ بقلمه، وهذا الطَّرق على الجدار كان يقصد فيه غسان أن الموت لا يكون على حدود الكويت بحثاً عن العمل، إذ بوجود الاحتلال هناك حدود يجب القتال فيها، وهي حدود فلسطين التاريخية، وبسبب ذلك قتل غسان أبي قيس، وأسعد، ومروان في هذه الملحمة، وهي ليست مهمة سهلة على الكاتب أن يقتل أبطالاً في الرواية كانوا يوماً واقعاً حقيقاً.

لقد كان غسان قاسياً عندما قتلهم، لأنه قام بتعريه الحقيقة، وكشف الجبن، وأكثر كشف الهروب نحو البوصلة الخطأ، حيث كان يريد غسان أن نأخذ الشهيد "خالد أبو عيشة" الذي استُشهد في 12 من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1964، عندما نفذ عملية عسكرية تحت لواء حركة القوميين العرب، وضمن مجموعات طلائع شباب الثأر، نموذجاً لقرع الجدران، واجتياز الحدود، حيث هنا، لا يكون الطرق باليد، بل بالرصاص، والاشتباك، والاستشهاد، كأنه يقول: "موت عن موت يفرق".

بناء على ما سبق، لم يكن الشهيد "هادي نصر الله" بعيداً من أبطال روايات غسان كنفاني، فهو البطل الذي كان يقصده كنفاني في كلماته الموجزة، والذي كان متلثماً بين الكلمات، محاولاً التسلسل إلى الواقع، ونجح في ذلك، حيث كان "هادي" هو سعد ابن أم سعد الذي حمل السلاح وذهب إلى حدود فلسطين المحتلة ليغلق المزراب الذي بسببه تعيش مخيمات اللجوء على الوحل.

وكان أيضاً من قرع جدران الخزان عبر المقاومة، وأكثر، سكب الحقيقة، كل الحقيقة بتتويج هذا القرع بالموت شهيداً، فهو لم يُلقِ السلاح ويقف متفرجاً على الاحتلال الذي يستبيح كل شيء حتى طيور أيلول يخطفها، ولذلك قرر الممارسة كنهج، حيث كان يؤمن بأن غداً، وبعد غد، سوف تشرق شمس جديدة، وهي التي كان يقاوم من أجلها، فقام بصنع مستقبل بأظافره منذ الطلقة الأولى حتى الأخيرة.

يبدو أن "هادي" كان يؤمن بالحكمة القديمة التي تقول: " من الضرورة أن يموت بعض الناس، ليعيش بعضهم الأخر"، والضرورة في الإيمان هنا كانت ضرورة في نفسها لا خياراً، حيث الشهيد "هادي نصر الله" كان يؤمن بأن استعادة فلسطين ليست بالكتابة عنها، بل بالطلقات، لأن "هادي" كان المستقبل، وأكثر من قام بتنقيح أخطاء الهزيمة العربية، بل أخطاء العالم في فلسطين.

يقول غسان كنفاني في رواية "عائد إلى حيفا" على لسان خلدون: "كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقاً صغيراً يتّسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود"، ولكن "سعيد" أحد أبطال الرواية كان قد قال لمريام التي ربّت خلدون: "لم نأتِ لنستعيد البيت، ولا حيفا، فهذا يحتاج إلى حرب"، وهذا ما كان يدركه أيضاً الأب نصر الله، مع أنه جلس وحيداً في غرفته وبكى، ولكنه قرر الحرب في تموز/يوليو عام 2006، وغيرها، واللافت أن الأب هنا كان يتمنى الشهادة لطفله بدلاً من الأسر، حتى لا يسقط في شباك المساومة، وتلك عقيدة تعني الموت لا الذلة.

وهذا الأب أيضاً كان يدرك خيارات هذا الطريق، وهو القائل: "شهادة هادي تؤكد أن قيادة حزب الله لا توفر أبناءها في سبيل النصر"، وكانت أيضاً الأم تدرك حجم فقدان طفلها الأول، مدلَّلها أبداً، ولكن هي على علم بما قاله كنفاني في رواية أم سعد، خصوصاً أن أم أسعد كانت امرأة حقيقة وليست نصاً أدبياً: "هذه المرأة تلد الأولاد فيصيرون فدائيين، هي تخلّف وفلسطين تأخذ".

يبقى السؤال هنا، لماذا نكتب عن هادي نصر الله؟، وهنا نقول: إن هادي ليس شهيد لبنان، وليس شهيد حزب الله أيضاً، بل هو طائر أيلول أبداً، وشهيد فلسطين أولاً، حيث "هادي" وقف تحت سقف المقاومة يدفع، وبقي يدفع حتى النهاية، ولم يكن من الذين وقفوا على الحياد، حيث صراط الحياد ليس مستقيماً، وأيضاً لم يقف مع الذين هزموا من الداخل، وباعوا فلسطين، بل وقف مع الذين تقاسموا رغيف الخبز، وعدد الطلقات، وسجادة الصلاة، ومسبحة الأمام، وتقاسموا أيضاً الموت، وشواهد القبور، وتراب الأحذية التي كانت تتسلل عبر الحدود.

لم تزل الدمية التي جاء بها إلى شقيقته زينب تُشعل الذاكرة، وما زالت ضحكته في الصورة التي يحبها جواد ترتسم مع الذكرى، حيث يختلط الفرح بالحزن، وما زال الصندوق الذي الذي جمع فيه والده صور هادي وما كان يملك سراً، لأن فيه تختبئ ذكرى الصغير الذي لا يكبر أبداً مع أنه كان يحمل بندقية، ويتشبك، ومن ثم استُشهد.

نكتب اليوم عن "هادي" لأنه الأخ لنا، والأبن، وأكثر، الشهيد، وسنبقى نغني له ما كتب والده "حسن نصر الله" في قصيدة "طائر أيلول":

يا طائرَ أيلولَ المهاجر

فوقَ كلِ أرضٍ

كما العمرُ في كلِ زمنٍ يهاجر

هذا حزني

خُطتُهُ من لوعتي منديلاً

أحملهُ للجبلِ الرفيع

أنشرُهُ حباً وعتاباً

لمسافر