هكذا صعد جونسون.. وهكذا سقط

كثرٌ يتنافسون للحصول على منصب جونسون، ولكن أيّاً منهم ليس تشرشل ولا تاتشر.

  • هكذا صعد جونسون.. وهكذا سقط
    هكذا صعد جونسون.. وهكذا سقط

في أعقاب موجة الاستقالات العاتية التي شملت ما يزيد على 50 موظفاً وزاريّاً، بينهم وزراء ووزراء دولة ومساعدو وزراء في الحكومة البريطانية، أعلن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون استقالته من زعامة حزب المحافظين، داعياً الحزب إلى اختيار بديلٍ له، على أن يواصل ممارسة مهام رئاسة الوزراء إلى حين اختيار خلفٍ جديدٍ.

لم تكن الأحزاب المعارضة، وعلى رأسها حزب العمال، وحدها من لم ترده في السلطة، فهذا ما أراده أيضاً المحافظون الذين اعتبروه ديمقراطياً - اجتماعياً أكثر من كونه محافظاً، ناهيك بجناح رئيس الوزراء الأسبق دايفيد كاميرون الذي كان معارضاً للخروج من الاتحاد الأوروبي، وخسر المعركة أمام جناح صقور بريكست بقيادة جونسون الذي كان عمدة لندن قبل أن يُعيّن وزيراً للخارجية في حكومة تيريزا ماي. 

ولا يغيب عن بال أحد أن جونسون، وقبل أن يتحوّل إلى نجمٍ سياسيٍّ، عمل صحافياً. وقد طردته صحيفة "تايمز أوف لندن" لانتهاكه أخلاقيات العمل الصحافي، حين اختلق اقتباساً أورده في أحد مقالاته، ما يطرح أسئلةً عدّة عن أخلاق الرجل وسلوكياته على صعيد العمل الصحافي والسياسي، وكذلك أخلاقه على صعيد خاص. بالطبع، لم يغب ذلك عن حزب المحافظين، فلماذا أوصل حزب كهذا رجلاً كهذا إلى زعامته وإلى رئاسة الوزراء؟ كيف صعد جونسون؟ وكيف سقط؟

أزمة حزب المحافظين الوجودية 

منذ عام 1997 وحتى عام 2017، أي على مدى عقدين من الزمن، شهدت بريطانيا 6 حملاتٍ انتخابية، فاز المحافظون في اثنتين منها فقط. في الانتخابات العامة عام 1997، انتخب البريطانيون 165 نائباً محافظاً فقط، ولم يتجاوز مجموع أصوات الناخبين الذين صوّتوا لمرشحي حزب المحافظين ما نسبته 30.7% من مجمل الأصوات، وهو ما زال يُعتبر حتى اليوم أسوأ أداء للحزب من حيث الأصوات والمقاعد منذ عام 1918.

أسباب هذا التراجع الذي وضع المحافظين أمام أزمةٍ وجوديةٍ تجد جذورها في التغيّرات التي عرفتها طبقات المجتمع البريطاني. أولاً، أصوات الطبقة الوسطى التي كانت تصبّ لمصلحة الحزب بدأت تستهويها خطابات حزب العمّال. ثانياً، جزءٌ كبيرٌ من أبناء هذه الطبقة ترك العاصمة لندن وضواحيها والمدن الكبيرة، واتجه إلى العيش في الأرياف والبلدات والمقاطعات الأخرى. 

حزب المحافظين لم يكن بحاجةٍ إلى أصواتٍ إضافيةٍ في هذه المناطق. لذا، خسر الحزب فعلياً تأثير هذه الأصوات حيث يحتاجها، أي في المدن، وبالتالي بقي عدد مقاعده في الأرياف على حاله، فيما تدنّى مجموعها في المدن وضواحيها.

جونسون "النّجم المخلّص"

أمام هذه الأزمة، برز جونسون كمنقذ وحيد لحزب المحافظين، ولا سيّما أنّه فاز بمنصب عمدة لندن عام 2008، وأسهبت الصحف في الحديث عن نجوميته في أولمبياد 2012، واعتبرته الفائز الأكبر في هذا الحدث الضخم، ومن ثم قاد حملة فعّالة تدعم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. 

نعم، جونسون بشعره الأصفر المبعثر وربطة عنقه المتطايرة وقميصه الذي يحمل بقايا غدائه، كان خشبة الخلاص، رغم كلّ ما تنشره الصحف وكلّ ما يعرفه الشعب عن زلّات وعثرات وفوضى في حياته الشخصية. 

خلال حملة بريكست، تميّزت الشعارات التي أطلقها بالإيجابية والحماسة، وكانت كلّها من طراز "لنستَعد السيطرة"، و"نعم نستطيع!"، و"الغد لنا"، و"الاتحاد الأوروبي من الماضي"، على عكس السوداوية والخوف اللذين بثّتهما الحملة المناهضة. جونسون بنجوميته وحملته الإيجابية صنع فارقاً في نتائج الاستفتاء المتقاربة، إذ صوّت 52% لمصلحة الخروج، و48% للبقاء. 

لم يكن ممثلاً عن حزبه بقدر ما كان نجماً يقدّم عرضاً منفرداً وحصاناً رابحاً راهن عليه المحافظون ليحسّنوا أداءهم المتراجع في حلبة السباق الانتخابي. هذا ما أثبتته الانتخابات التي دعا إليها جونسون بعد 4 أشهرٍ من توليه رئاسة الحكومة، إذ فاز المحافظون بـ365 مقعداً، وهو أكبر عدد مقاعد يفوز بها الحزب منذ عام 1987. 

بعض هذه المقاعد كان قد سيطر عليه حزب العمال منذ عام 1918، والبعض الآخر لم يكن قد فاز به المحافظون يوماً. هذا الانتصار العظيم حققه جونسون بشعاراته التي تدعو إلى تطبيق اتفاقية بريكست، وشعبيته التي جعلته أقرب إلى الناخبين من الطبقة العاملة.

جونسون في الحكم

يمكن اختصار الفترة التي قضاها جونسون في منصبه بثلاثة مسارات أساسية. أولاً، من ناحية هونغ كونغ، باتت مسألة شائكة، والمواقف البريطانية من موضوع الإيغور ليست لطيفة، والعلاقات الصينية – البريطانية متوترة. من ناحيةٍ أخرى، لم يكن بايدن مهتماً بالتجارة الحرّة مع بريطانيا، فلم تتم الصفقات التجارية مع الولايات المتحدة والصين التي كان جونسون يسعى لها بعد الخروج من السوق الأوروبية.

ثانياً، لم تكن سياسة "مناعة القطيع" خياراً موفقاً لحكومة جونسون في مواجهة جائحة كورونا. وقد سجّلت بريطانيا معدلاتٍ كانت الأعلى في العالم لناحية الإصابات والوفيات، ولا سيما بين المسنين، بعد الضغوط التي مورست على دور رعاية المسنين لاستقبال المصابين بكورونا، فتفشّت الإصابات بين كبار السن، وتوفي الكثيرون منهم.

رغم ذلك، استطاعت حكومة جونسون استدراك الأمر وإنقاذ سمعتها في إطار مواجهة الجائحة، من خلال حملات التلقيح المبكرة والواسعة، فحوّلت المسارح والملاعب وغيرها، كما المستشفيات، إلى مراكز لإعطاء اللقاح.

ثالثاً، كان جونسون من أكثر قادة حلف الناتو حماسةً في دعم أوكرانيا ورئيسها فولوديمير زيلينسكي خلال العملية العسكرية الروسية، فزار كييف عدّة مرات، ووفّرت حكومته الملاجئ للأوكرانيين، وقدّمت الدّعم العسكري والمادي والدبلوماسي، كما دعم جونسون انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي، غير أن هذه الجهود الخارجية، وإن كان الشق الإنساني يعني المواطن البريطاني، لا تُعتبر معياراً لنجاح الحكومة، ولا تتقدّم في سلم أولوياته على الوضع المعيشي المتدهور.

فضائح وخرق للقوانين خلال تولّي رئاسة الوزراء

إجراءات الإغلاق العام التي فرضتها حكومة جونسون خلال جائحة كورونا لم تكن اختيارية، بل إلزامية، وعدم الالتزام بها اعتُبر خرقاً عاقب عليه القانون بعقوبات قد تصل إلى السجن. وبناء عليه، فإن الحفلات التي حضرها جونسون في داونيغ ستريت خرقت القوانين، وطبيعة هذه الخروقات كانت مستفزّة للمواطنين الذين يرزحون تحت عبء الجائحة. كما أنَّ إحدى حفلات داونيغ ستريت أُقيمت عشية جنازة الأمير فيليب، زوج الملكة إليزابيث الثانية، والذي لم تقَم في دفنه المراسم العامة المعتادة، نظراً إلى الإجراءات الصحية الخاصة بالجائحة.

لم يكن خرق تدابير الإغلاق العام الفضيحة الوحيدة التي أُضيفت إلى سجل جونسون خلال توليه رئاسة الوزراء، والتي كانت السبب الرئيسي في تخلّي المحافظين عنه، بل ضُمّت إلى سجله تهم بالفساد وتلقي التبرعات من دون الإفصاح عنها، وفضيحة إجبار النواب المحافظين على التصويت لإلغاء قرار تعليق عضوية أوين باترسون، وتعيين كريس بينشر في الحكومة، رغم معرفة جونسون السابقة بفضيحته الأخلاقية.

سقط جونسون

بعد فضيحة كريس بينشر الأخيرة، كرّت سبحة الاستقالات في حكومة جونسون. وقد سبقتها عدّة إضرابات عامة لقطاعات مختلفة في البلاد نتيجة الأزمات الاقتصادية وتضخّم الأسعار وارتفاع معدلات الضرائب التي بلغت أعلى معدل تشهده بريطانيا منذ أربعينيات القرن الماضي.

عوامل عدّة، أبرزها الخروج من الاتحاد الأوروبي، وجائحة كورونا، ومن ثم أحداث أوكرانيا وتداعياتها العالمية، أسهمت في زيادةٍ هائلةٍ في عجز الميزان التجاري، والتي سعت حكومة جونسون إلى الحدّ منها، عبر خطّة تضمنت زيادة في ضرائب هي الأعلى منذ عقدين، ما أنهك القطاعات التي تحاول التعافي من تبعات الأزمات الأخرى، ولا سيما كورونا.

جونسون أتقن لعبة الحملات والانتخابات، وحزبه احتاج إلى الكاريزما التي يضيفها إلى البدلات السود التي يرتديها المحافظون، ولكن سياسات حكومته وفضائحه، وكذلك الظروف العالمية، لم تكن في مصلحته، فلم تجرِ الرياح بما تهواه سفنه.

هل يسقط حزب المحافظين معه؟ 

حين استقال رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين عام 1949، اختير ونستون تشرشل ليكون خليفته. وعام 1979، حين جرى التصويت على حجب الثقة عن رئيس الوزراء جيمس كالاهان، كانت مارغريت تاتشر البديل. تاريخياً، استُبدل برؤساء الحكومات شخصيات بديلة لامعة تذكرها بريطانيا والعالم.

أما اليوم، فكثرٌ يتنافسون للحصول على منصب جونسون، ولكن أيّاً منهم ليس تشرشل ولا تاتشر، وأيّاً منهم لا يملك كاريزما جونسون وينال القبول من العمّال والمناطق التي لم تكن تدعم حزب المحافظين. المحافظون تخلّوا عن جونسون، ولكنهم سيندمون.