"إسرائيل".. الحرب بتعديل الروابط

تريد "إسرائيل" أن تعيش أكثر، بتعديل روابطها التاريخية، والمتشظية، وواحدةٌ من أدوات المواجهة في المرحلة المقبلة، هي العمل على إفشال هذا التعديل!

  • كان كتاب شمعون بيريز
    كان كتاب شمعون بيريز "الشرق الأوسط الجديد" نداءً جاداً للتركيز على تمكين الروابط الاقتصادية بالمنطقة من أجل الهيمنة عليها.

قامت "إسرائيل" على فكرة مفادها أن القوة العسكرية وحدها، هي التي تمكّنها من البقاء في محيط مُعادٍ لا يقبلها. ولم تكن الرهانات على إنشاء روابط اقتصادية بالمنطقة هي الأساس في استراتيجية الاحتلال، في بداية رحلته على الأقل، لأن إنشاء هذه الروابط كان أمراً غير ممكن ببساطة، وربما كان كتاب شمعون بيريز "الشرق الأوسط الجديد" نداءً جاداً للتركيز على تمكين الروابط الاقتصادية بالمنطقة من أجل الهيمنة عليها.

كانت المعادلة الإسرائيلية واضحة، وهي ثنائية المواجهة العسكرية في الشرق (المعركة الإلزامية)، وبناء الروابط الاقتصادية والثقافية بالغرب (المتنفَّس الطبيعي لأيّ كيان). وبذلك، تدخل "إسرائيل" حروبها مع شعوب المنطقة، وفي الوقت نفسه، تقدّم طلبات انتسابها إلى الهيئات الاقتصادية الأوروبية، ويشارك فريق كرة القدم التابع لها في تصفيات كأس العالم عن قارة أوروبا. 

في خطابه في الكنيست عام 1974م، يقول إسحاق رابين "إن التعاون المتزايد مع الأسواق الممكنة لنا، هو الآن في رأس أولوياتنا". كان يدرك رابين أن الاختناق، اقتصادياً وثقافياً، من دون وجود بديل، سيكون مدمّراً للكيان. لذلك، كان التوجه غرباً هو الحل الأمثل.

تنسجم فكرة "الكيان المصنّع" مع تشظّي روابطه الاقتصادية والسياسية والثقافية جغرافياً، ولا يحدث ذلك إلاّ مع "إسرائيل". فالدول المتقاربة جغرافياً تدخل عادة في إطار هيئات دفاع عسكرية (معاهدة الأمن الجماعي)، أو سوق مشتركة (الاتحاد الأوروبي، آسيان). حتى الحالات، التي تنطوي على عداء، لا تتّجه فيها الكيانات إلى تشظي علاقاتها على هذا النحو (تايوان، كشمير، الباسك). وهذا التشظي يمثّل واحداً من أهم ملامح الحالة المصنّعة والوحيدة المتبقية في العالم من الاحتلال الاستيطاني.

لذلك، ليس غريباً أن العلاقات الإسرائيلية الأوروبية، مثلاً، سارت في إيقاع متسارع، وإن شابَها بعضُ محطات التوتر لحسابات أوروبية، من أجل المحافظة على علاقات معقولة بالمنطقة.

منذ تأسيس الهيئة الاقتصادية الأوروبية عام 1958م، قال بن غوريون إن العلاقة الوثيقة بها أساسية بالنسبة إلى "إسرائيل". لذلك، نفذت أول مهمة دبلوماسية طارئة عليها، بعد المملكة المتحدة وأيرلندا. وفي عام 1964م، وعلى الرغم من كل الضغط الدبلوماسي العربي، فإن "إسرائيل" تمكّنت من توقيع اتفاقيتها الأولى مع الهيئة نفسها.

في عام 1967م، وقّعت "إسرائيل" اتفاقيات جمركية مع الهيئة الأوروبية في القطاع الصناعي. وفي عام 1975م، قبل شهر واحد من الاجتماع الأول للحوار العربي الأوروبي، كانت أبرمت اتفاقيات تجارية جديدة مع الهيئة.

كانت "إسرائيل" تدرك أهمية هذا المتنفَّس، الذي لا بديل عنه، ولاسيما مع عزلتها وانغلاق أسواق المنطقة أمامها، استيراداً وتصديراً وعبوراً. صدَّرت إلى أوروبا 35% من مجمل صادراتها عام 1981م، بقيمة 5.6 مليارات، واستثمرت مناخات "أوسلو" من أجل رفع هذه الصادرات إلى 11.5 ملياراً.

ومع ذلك، تأزّمَ عدد من اتفاقياتها بسبب ممارساتها، ومن ذلك اجتياح لبنان والانتفاضة الأولى، الأمر الذي يؤكد أن "إسرائيل" تعيش أزمة أكبر مع مناخات الحرب، وليس العكس. هذا تماماً ما حدث مع صعود نتنياهو عام 1996م، وهذا ما حدث عندما تضرّر عدد من الاتفاقيات في قطاع العلوم والتكنولوجيا مع اجتياح مخيم جنين عام 2002م.

ومع ذلك، تبقى السِّمة العامة للمشهد، أن الغرب قدّم المتنفَّس اللازم لـ"إسرائيل"، من أجل الاستمرار في حالة تشظي الروابط. وعاشت العلاقات الاقتصادية حالة من الاستقرار، مستندةً إلى ثبات العلاقة في الهيئة الإسرائيلية - الأوروبية، واتفاقية التجارة الحرة المنبثقة منها عام 2000م. 

  • منذ تأسيس الهيئة الاقتصادية الأوروبية عام 1958م، قال بن غوريون إن العلاقة الوثيقة بها أساسية بالنسبة إلى
    منذ تأسيس الهيئة الاقتصادية الأوروبية عام 1958م، قال بن غوريون إن العلاقة الوثيقة بها أساسية بالنسبة إلى "إسرائيل".

لكنّ "إسرائيل" لم تعد قادرة على الاستمرار في النسق نفسه، وباتت مضطرة إلى إجراء تعديلات في قنوات تنفُّسها، وذلك للأسباب التالية:

1-   مع أن الصادرات الإسرائيلية إلى أوروبا تشكّل 21% من مجمل صادرات الاحتلال، إلاّ أن العكس لا يمثّل أكثر من 0.9%، الأمر الذي يجعل أوروبا أقلَّ حماسة لهذا التبادل التجاري إذا عصفت تغييرات سياسية قوية بالمناخ بين الطرفين. ومن ذلك مثلاً محادثات فيينا مع إيران. يجب أن نتذكر هنا أن حجم الاستثمارات، التي راهن عليها الأوروبيون في إيران عند توقيع الاتفاق النووي، يتجاوز المنافع الأوروبية من سوق الاحتلال على مدى سنوات.

2-   مع القرارات المتتالية للمحكمة الأوروبية بشأن المنتوجات المصنَّعة في المستوطنات الإسرائيلية، تتعرّض هذه المنتوجات لحملات مقاطعة جدية في أوروبا.

3-   واحدة من نتائج معركة "سيف القدس" هي التحولات في الرأي العام الغربي تجاه "إسرائيل"، الأمر الذي يشكل عائقاً في استمرار المتنفَّس بالطريقة نفسها.

4-   اعتماد "إسرائيل" على قطاع السايبر في ظلّ سمعة مشوَّهة للوحدة 8200، والشركات الناشئة التابعة لها مباشرة، والسِّجِل الحافل الآن لبرمجية بيغاسوس. كل ذلك يتضارب مع المعايير الاقتصادية في أوروبا، والتي تفرضها هيئات متعددة في "الدولة"، حكومية وغير حكومية. وبذلك، يصبح تصريف هذه المنتوجات، اقتصادياً وسياسياً، غير ممكن إلاّ في دول الخليج.

5-   الانشغال الأوروبي بأزمات الطاقة، والتضخم في الاقتصاد، يمنعان القارة من فسحة كافية لأداء دور المتنفَّس "للروابط المتشظية" لـ"إسرائيل". الأمر يسير على السكة نفسها مع الولايات المتحدة الأميركية، التي باتت، هي الأخرى، تضج بمطالبات داخلية بـ"إنهاء العلاقة الخاصة" بـ"إسرائيل"، والالتفات أكثر إلى قضايا كورونا والمناخ والاقتصاد.

6-  الاهتمام الغربي، أوروبياً وأميركياً، بإبرام اتفاق نووي مع إيران من أجل التفرُّغ أكثر لساحات أخرى، مثل روسيا والصين، يشكّل عامل القلق الأكبر مؤخَّراً بالنسبة إلى "إسرائيل". يظهر ذلك في تشكُّل تحالفات بعيدة جغرافياً عنها، مثل "أوكوس" و"كواد"، وكأن الولايات المتحدة الآن ترى هذه التحالفات هي الأهم. وفي ظل أيّ لحظة من تشتت الانتباه، ستُوجَد القوات الأميركية في تلك المناطق أولاً.

7-  في ظل كل ذلك، تبرز في المنطقة تطورات ملحّة بالنسبة إلى "إسرائيل". وهي (المنطقة) تملك التقنيات التكنولوجية الكافية في دول (إيران)، وتنظيمات (حزب الله وأنصار الله)، الأمر الذي يجعل فكرة الانتظار الإسرائيلي للتحرك الغربي غيرَ عملية.

تدفع هذه الظروف، مجتمعةً، مركزَ القرار الإسرائيلي إلى اتخاذ خطوات متسارعة في "تعديل الروابط"، العسكرية والاقتصادية والثقافية. وهذا التعديل لا يعني أن "إسرائيل" سوف تبدل علاقاتها غرباً بعلاقاتها شرقاً، وإنما سوف "تستدير شرقا" أكثر، وفق طريقتها الخاصة. ومن ذلك:

1.   نقل "إسرائيل" من منطقة قيادة العمليات الأوروبية الأميركية، "يوكوم"، إلى المنطقة الوسطى، "سينتكوم"، الأمر الذي يعني شعور الاحتلال بتحمُّل الأعباء مع الولايات المتحدة، وليس انتظار مساعدتها الكاملة، ولاسيما أن "البنتاغون" أشار، في أكثر من مناسبة، إلى دور "اتفاقيات أبراهام" في السياق نفسه. كل ذلك يعطي الإشارة الواضحة إلى أن هذه الأطراف عليها أن تُدير أوضاعها الأمنية في ظل تراجع الوجود الأميركي المباشِر. 

2.   التركيز الإسرائيلي على أسواق الغاز القريبة، مثل الأردن، يأتي في سياق محاولة الاحتلال السيطرةَ على البنى التحتية لدول المنطقة. ومن ذلك مشروع "الماء في مقابل الكهرباء"، وأيضاً طرح أيّ مبادرات لمشاريع مشتركة في التنقيب عن الغاز مع لبنان. ما تحاول "إسرائيل" فعله هو خلق حالة روابط اقتصادية عضوية، وتشبيكات مصالح، تكون فيها هي صاحبةَ العَتَبة الأعلى تكنولوجيا، وبالتالي تمتلك كوابح إعلان أي حرب ضدها. وهي تراهن، في أدبياتها الاستراتيجية، على أن هذا الاتجاه يحميها، حتى لو تبدَّلت الأنظمة السياسية في الدول المستهدَفة. 

3.   تستورد الهند 41% من صادرات السلاح الإسرائيلي، وتستورد أذربيجان 16%، وفيتنام 10%. وبذلك، تكون آسيا هي المستورد الأكبر للسلاح الإسرائيلي، الأمر الذي يشكّل حيزاً مهماً في الاقتصاد الإسرائيلي.

4.   العمل على تطوير العلاقة بالصين، بالتدريج، من دون استفزاز الحليف الأميركي، بحيث تعمل "إسرائيل" على استصدار موافقات لتدريس اللغة العبرية في عدد من الجامعات الصينية، ورفع مستوى التنسيق التجاري مع الصين (التي احتلت، كدولة، المركزَ الثاني في التبادل التجاري مع "إسرائيل" بعد الولايات المتحدة الأميركية). والمبادرات التي أرسلتها "إسرائيل"، بخصوص مبادرة "الحزام والطريق"، تستهدف أن تجعل ميناءَ حيفا أولويةً استراتيجية صينية، لجهة الاستقرار وحركة التجارة. 

5.    تصاعُد التنسيق الأمني مع الخليج، مع زيارة غانتس للبحرين، وعروض هيرتسوغ بشأن مساعدة الإمارات، ورفع مستوى المشاريع المشتركة مع الإمارات في برامج كورونا وعين الصقر، والعروض المتعددة لمدينة نيوم في السعودية. كل ذلك يجعل دول الخليج في خانة الأولويات القصوى بالنسبة إلى "إسرائيل".

6.   العمل على تهدئة الأجواء مع تركيا، وتأكيد تنسيق المشاريع الاقتصادية، ورفع نِسَب التبادل التجاري، والعمل المشترك على تحويل تركيا إلى "موزّع طاقة" عالمي (Energy Hub) يمرر الغاز الروسي، وغاز الاحتلال أيضاً، إلى أوروبا.

يحاول الاحتلال الاستمرار في حربه، من خلال التكيُّف وبناء الروابط الجديدة (ليس على أنقاض الروابط القديمة، وإنما مع تحوُّل ظروفها). 

تكمن أدوات المواجهة في خنق عوامل التكيُّف، التي يحاول الاحتلال استثمارها، وقطع الطريق عليها. ومن ذلك:

1-  تعميق حالة التشتُّت والانشغال الأميركيَّين. وبذلك، تكون أيّ تحركات للمقاومة العراقية تصبّ في خدمة المواجهة. فاستمرار التوتر الأميركي في جبهات متعددة وواسعة يُدخل الولايات المتحدة أكثر في حالة "عبء التوسع"، الذي ينعكس سلباً على الاحتلال.

2-  مبادرات واسعة، رسمية وشعبية، ثقافية وسياسية، مع الصين، من أجل بلورة موقف أقرب إلى القضية الفلسطينية، علماً بأن هذا الأمر ليس من السهل أن يصل إلى "لحظة ماو تسي تونغ" حين رفضَ رسالة تعزية من الاحتلال بعد الكوارث الطبيعية التي أصابت الصين في الستينيات. ومع ذلك، يستحق الأمر جهداً كبيراً في هذا الاتجاه.

3-  تمكين الوجود اليمني عند الشاطئ المطلّ على البحر الأحمر، وإدخال التجارة الإسرائيلية في حالة قلق، الأمر الذي يُربك تجارتها مع الدول الآسيوية، مثل الهند وفيتنام.

4-  قطع الطريق على المشاريع المشتركة، التي تهدف منها "إسرائيل" إلى ربط البنى التحتية لدول المنطقة بإدارتها. ومن ذلك تأسيس هيئات تعقُّب للشركات الأجنبية العاملة في إطار شراكات مع الاحتلال، وتحديداً الشركات التِّقْنية الكبرى، والتي قد تكون الأخطر في سياق الحروب السيبرانية والمعلومات. 

تريد "إسرائيل" أن تعيش أكثر، بتعديل روابطها التاريخية، والمتشظية. وواحدةٌ من أدوات المواجهة في المرحلة المقبلة، هي العمل على إفشال هذا التعديل!