هل تتَّجه الولايات المتحدة إلى حربٍ أهلية؟

لم تكن زلّة قدَم حين غرَّد الرئيس الأميركي بما قاله القسّ الإنجيلي روبرت جيفرس لقناة "فوكس نيوز". فالتحذير من نشوب حربٍ أهليةٍ في حال عَزْل ترامب من منصبه ليس تخويفاً بقدر ما هو تهديد جدِّي يسعى إليه مُناصرو ترامب من الأيديولوجيين والمنتفعين.

اليوم، بعد أكثر من 150 عاماً من نهاية الحرب الأهلية، تنقسم أميركا مرة أخرى، حسب الجغرافيا والحزب والأيديولوجية والاقتصاد والعِرق. ففي استطلاع أجرته مؤسَّسة راسموسن ريبورتس في حزيران/ يونيو الماضي ونشرته صحيفة "يو أس آي تودي" تبيَّن أن 31 % من الناخِبين الأميركيين المحتَمَلين الذين شملهم الاستطلاع يرجِّحون أن تشهد الولايات المتحدة حرباً أهلية ثانية في وقتٍ ما خلال السنوات الخمس المقبلة، بينما أبدى 59 % من الناخبين قلقهم من أن يلجأ مُعارضو سياسات الرئيس دونالد ترامب إلى العُنف.

ومع انطلاق حملة عام 2020، يُقدِّم المرشَّحون من الجمهوريين والديمقراطيين تنبؤات وخيمة عما سيُحدث إذا فاز الجانب الآخر. فهل سيقبل الديمقراطيون العيش أربع سنوات أخرى تحت ظلّ ترامب؟ هل ستشعر الأقلّيات العِرقية أنها مُهدَّدة بالاضطهاد والعَزْل؟ وإذا ما فاز الديمقراطيون هل سيدَّعي ترامب أن الانتخابات كانت مُزوَّرة ويرفض بالتالي التخلّي عن السلطة؟

الاستقطاب السياسي الحاد، مع عدم وجود حلول وسط مُرضية للجميع، وتغطية إعلامية مُتزايدة الانقسام في ظلّ تدفّق المعلومات، وترهّل المؤسَّسات الحكومية وضعفها، وتخلّي القيادات السياسية عن مسؤولياتها، وإضفاء الشرعية على العنُف باعتباره "الطريق" لإجراء الخطاب أو حلّ النزاعات في ظلّ وفْرة السلاح وسهولة استخدامه. عوامل خمسة تُنذِر باندلاع حربٍ أهليةٍ في المجتمع. وإذا ما أمعنّا النظر في الواقع الأميركي نجد تجلّياً لأغلب المؤشِّرات المقلِقة.

الانقسام الاجتماعي والسياسي الحاد

رغم استبعاده لفرضيّة الحرب الأهلية، إلا أن المؤرِّخ الأميركي إريك فونر يؤكِّد "وجود الانقسامات العميقة داخل المجتمع الأميركي على طول خطوط مُتعدِّدة: عُنصرية، أيديولوجية، ريفية مقابل مدنية". وقد أظهرت آخر نتائج الانتخابات الأخيرة أن الانقسام السياسي الجغرافي الأساسي في الوقت الحاضر هو بين المجتمعات الحَضَرية والريفية.

وهو ما يُشاطره فيه المؤرِّخ البريطاني نيل فيرغسون الذي يعتقد أن حدَّة التناقُضات الداخلية في الولايات المتحدة اشتدَّت في الآونةِ الأخيرة، حيث تكثَّف "الصِراع الثقافي".

أما بشأن الأحزاب، فقد أصبحت مُتجانِسة أيديولوجياً واجتماعياً، وفقاً ليليانا ماسون من جامعة ماريلاند. الجمهوريون هم من البيض، وغالباً ما يكونون مسيحيين، وفي عصر ترامب، معظمهم من الذكور. الديمقراطيون هم حزب الأقلّيات والعديد من البيض الحاصلين على مستوياتٍ أعلى من التعليم. وأعضاء الحزبين ينقسمون على أُسُسٍ عِرقيةٍ ودينيةٍ وثقافية. لقد تلاشت العلاقات الاجتماعية الشامِلة التي عزَّزت ذات مرة الفَهْم الحزبي. يعيش الديمقراطيون والجمهوريون في أحياء مختلفة، ويرسلون أطفالهم إلى مدارس مختلفة، ويحضرون الكنائس المختلفة، ويسكنون بشكلٍ مُتزايدٍ فقاعات الأخبار والمعلومات الخاصة بهم.

 

تراجُع ثقة المجتمع الأميركي بالمؤسَّسات السياسية

يفقد الكثير من الأميركيين ثقتهم في الحكومة الفيدرالية والنظام السياسي الذي يشعرون أنه لم يعد يعمل في مصلحتهم. ووفقاً لاستطلاع أجرته مؤسَّسة بيو للأبحاث عام 2013، فإن 19% فقط يثقون في الحكومة الفيدرالية و53% يعتقدون صراحةً أنها تُهدِّد حقوقهم وحرياتهم الشخصية. وتتَّضح هذا الكراهية تجاه واشنطن في الارتفاع المقلِق - بزيادة 37% منذ عام 2014 وحده - في الجماعات شبه العسكرية اليمينية المناهِضة للحكومة. وبحسب مؤشِّر الديمقراطية التابع لوحدة الإيكونوميست، فقد سُجِّل انخفاض كبير في ثقة الأميركيين بمؤسَّساتهم السياسية.

ولم يعد يقتصر الأمر على المجتمع المدني بل تَغَلغَل في جسد المؤسَّسات الأمنية والعسكرية. وتُشير بعض الدراسات إلى وجود شَرْخٍ داخل المؤسَّسة العسكرية التي تتنامى بين قادتها نظرية المؤامرات الخارجية. ويقع بعض ضبَّاطها الكِبار أسرى أطروحات القوى اليمنية تجاه المؤتمرات الخارجية والعداء للمُهاجرين.

 

الميلشيات وفوضى السلاح

تشهد البلاد نمواً هائلاً في عدد الميليشيات المسلَّحة، فهناك أكثر من 500 مجموعة ميليشيا، طبقاً لرابطة مُكافحة التشهير. معظمهم يمينيون ومُعادون للحكومة. يُروِّج أنصار هذه الميلشيات لنظرية المؤامرة القائِلة بأن الحكومة الفدرالية خاضعة لسيطرة عصابةٍ نخبويةٍ غامِضة، والتي تُخطِّط لرَفْعِ أسلحة الأميركيين، والإطاحة بالحكومات المحلية، وتثبيت الأحكام العرفية على المواطنين.

تُعتَبر الميلشيات أرضاً خصبة للكراهية والتعصّب العِرقي والمذهبي، فهم يكرهون المسلمين والمهاجرين والمكسيكيين. وهي تجذب رجال الشرطة على فيسبوك، كما تجذب المحاربين المتقاعدين، وأولئك العسكريين العائدين من أماكن الصِراع في الشرق الأوسط.

عن خطورة هؤلاء، قال مايكل ماكجريتي ، مُساعِد مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي لمكافحة الإرهاب في إحدى جلسات الاستجواب في الكونغرس : "حدثت اعتقالات ووفيات في الولايات المتحدة بسبب الإرهابيين المحليين أكثر من الإرهابيين الدوليين في السنوات الأخيرة".

وتزداد خطورة هذه الميلشيات مع تفشّي السلاح في المجتمع، ففي دراسةٍ استقصائيةٍ أجراها معهد الدراسات العُليا للدراسات الدولية والتنمية في جنيف، يوجد في الولايات المتحدة أكثر من 393 مليون قطعة سلاح مملوك للمدنيين، أو ما يكفي لكل رجلٍ وامرأة وطفل لامتلاك سلاح وما زال هناك 67 مليون قطعة سلاح. ورغم أنهم يشكِّلون 4% من سكان العالم إلا أن الأميركيين يمتلكون حوالى 46% من إجمالي المخزون العالمي البالِغ 857 مليون قطعة سلاح. وخطورة انتشار السلاح بلغت حدَّاً يُهدِّد الأمن الاجتماعي ذاته، فخلال عام 2014 فقط تمَّ ارتكاب 14249 جريمة قتل من بينها 9675 بواسطة الأسلحة النارية أي 68% من هذه الجرائم.

وتُشير كذلك إحصائيات مُنظّمة "إيفيري تاون" الأميركية إلى أنه منذ عام 2013، وحتى عام 2018 تمَّ الإبلاغ عن حوالى 300 حادث إطلاق نار في المدارس الأميركية فقط.

سيناريو العُنف المُتوقَّع

لقد تطوَّرت أنماط الصِراعات على مدار العقود الماضية وتتركَّز التمرّدات اليوم على استخدام التكتيكات الإرهابية بدلاً من المعارك. تنتشر الجماعات بشكلٍ واسعٍ، وتتَّخذ أشكالاً مختلفة، وتخوض عبر شبكات غير مرئية حرب المعلومات ونَشْر الفوضى. ووراء هذه الجماعات المتطرِّفة طبقات من المستفيدين والمحرِّضين: الأيديولوجيون، المنتفعون مالياً، الأثرياء، الشبكات الإجرامية، الجهات الأجنبية مدفوعة بأهدافٍ استراتيجية.

بالنسبة إلى الولايات المتحدة، سيكون شكل الصِراعات فيها غير مُتجانِس. يمكن أن يأتي هذا من أقصى اليمين، أقصى اليسار أو من المتعصّبين الدينيين. صِراعٌ يتطوَّر مع العديد من الجماعات الديناميكية المؤطَّرة افتراضياً عبر منصَّات التواصُل الاجتماعي ذات الاهتمام والتجنيد الأيديولوجي. سيخلق هذا الوضع، على الأرجح، خليطاً من جماعات التمرّد الصغيرة نسبياً الذين ينخرطون في مناوشاتٍ مع نُظرائهم، ممزوجة بهجماتٍ إرهابيةٍ عاليةِ القيمة من حينٍ إلى آخر ضدّ أهداف مُيَسَّرة وصعبة.