إردوغان يستعدّ لبايدن.. ماذا عن بوتين وميركل!

أياً كان موقف بوتين وميركل، فقد بات واضحاً أنّ إردوغان لن يكون ضعيفاً تماماً في مساوماته مع الرئيس بايدن الذي سيحسب أكثر من حساب عندما سيقول له كن فيكون!

  • الرئيس التركي رجب طيب إردوغان
    الرئيس التركي رجب طيب إردوغان

مع اقتراب موعد المواجهة المحتملة بين واشنطن وأنقرة بعد وصول بايدن إلى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني/يناير القادم، وهو ما سينعكس على مجمل موازين القوى الإقليمية والدولية، لن يتردَّد الرئيس إردوغان في الاستنجاد بكلٍ من الرئيس بوتين والمستشارة أنجيلا ميركل لمواجهة الضغوط والتهديدات الأميركية التي تهدف إلى تضييق المسار عليه تماماً، وهو ما كان واضحاً في تصريحات بوتين، الَّذي قال الأسبوع الماضي "إن إردوغان زعيم ملتزم بوعوده دائماً"، في ما تصدّت ميركل لضغوط الرئيس الفرنسي ماكرون خلال القمة الأوروبية التي لم تفرض أي عقوبات على تركيا، وأجَّلت الموضوع إلى آذار/مارس القادم، بحجَّة "التشاور مع الرئيس بايدن".

ورغم أنَّ معطيات بوتين وميركل في العلاقة مع الرئيس إردوغان تختلف، وأحياناً تتناقض في ما بينها، فإنّ تركيا كانت، وما زالت، القاسم المشترك لأحاديث روسية وألمانية مشتركة حاضراً وتاريخاً، فقد بدأت العلاقات الروسية - التركية بالرسالة الودية التي بعث بها الإمبراطور الروسي إيفان الثالث إلى السلطان العثماني بيازيت الثاني في 31 آب/أغسطس 1492 (فترة سقوط دولة الأندلس العربية في إسبانيا وما لحق بها من تحالفات أوروبية استهدفت روسيا)، ولكنها لم تستمر على هذا الحال. 

وشهدت هذه العلاقات 16 حرباً ضارية، انتصر الروس في 11 منها، وانتصر الأتراك في 5 منها حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.

وكانت الدولة العثمانية في هذه الحرب حليفاً لألمانيا التي كان السلطان عبد الحميد، ومن بعده حزب الاتحاد والترقي، الذي أطاح به في العام 1908 معجبون بها. 

وجاءت ثورة لينين 1917 لتغلق ملف المنافسات والعداءات والصراعات والحروب بين روسيا وتركيا، إذ وقفت موسكو إلى جانب مصطفى كمال أتاتورك في حرب الاستقلال التي انتهت بقيام الجمهورية التركية في العام 1923، لتعود هذه الجمهورية إلى الحضن الأوروبي والأميركي بعد الحرب العالمية الثانية التي لم تشارك فيها أنقرة إلى جانب ألمانيا.

وتحولت تركيا بعد ذلك إلى مخفر متقدم للحلف الأطلسي ضد الاتحاد السوفياتي، لمنعه من النزول إلى المياه الدافئة، وبشعار الإسلام والمسلمين الذي رفعه رئيس الوزراء آنذاك عدنان مندرس، الذي يعد الرئيس إردوغان من المؤمنين بنهجه السياسي والعقائدي، وإلا لما أعلن روسيا العدو الأول لتركيا، ومعها إيران، بحجة دعمها الرئيس الأسد، محملاً إياها مسؤولية إفشال كل مخططاته الإقليمية والدولية، وبشكل خاص عبر الفيتو في مجلس الأمن الدولي، وهو ما دفعه إلى إسقاط الطائرة الروسية في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، لتتحول موسكو إلى عدوه الأكبر الذي عرقل مشاريعه خلال ما يسمى بـ"الربيع العربي".

ولم يمنعه ذلك من الاعتذار إلى بوتين في 27 حزيران/يونيو 2016، ليكون ذلك بداية الصفحة الجديدة في العلاقات بين الدولتين بكل عناصرها المتنوعة من الغاز والتجارة والسياحة والمفاعل النووي، وأخيراً صفقة صواريخ "أس-400"، وذلك بعد أن سمح بوتين للجيش التركي بدخول سوريا في 24 آب/أغسطس 2016، ليساعد ذلك إردوغان في تحقيق انتصاراته العسكرية والسياسية والعقائدية والاستراتيجية في سوريا، ومن خلالها في كل المناطق التي تتواجد فيها تركيا الآن، بما في ذلك أوكرانيا، الحديقة الخلفية لروسيا، وكما هو الحال في أذربيجان بعد حرب كاراباخ.

وأياً كان الدعم السياسي والنفسي الروسي الذي يتمنى إردوغان أن يحظى به في حربه القادمة مع الرئيس بايدن، يعرف الجميع أن ذلك لن يكون كافياً إلا إذا حظي بدعم وتضامن ألماني، نظراً إلى ما تمتلكه برلين من ثقل أوروبي ودولي، وخصوصاً بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

وعلى الرغم من أن العلاقات التركية مع ألمانيا ليست بحجم علاقاتها وكثافتها مع الإمبراطورية الروسية واتحادها السوفياتي الشيوعي، فإنَّ تركيا عثمانياً وجمهورياً لم تعادِ برلين إلا لفترات قصيرة جداً، لتتحول في معظم الأوقات إلى حليف لها في الحرب العالمية الأولى، وتعود صديقة لها بعد الحرب العالمية الثانية.

ويفسر ذلك استنجاد ألمانيا بالعمالة التركية منذ بداية الستينيات، وهو ما قابله انفتاح تركي عليها في جميع المجالات، وإن كان ذلك في البداية تحت المظلة الأطلسية، فتحولت إلى بوابة الانفتاح التركي على الدول الأوروبية، وخصوصاً تلك المجاورة لألمانيا، وهي هولندا وفرنسا والنمسا وبلجيكا، والتي يتواجد فيها الآن أكثر من 5 مليون تركي من الجيل الأول والثاني، ولهم جميعاً ثقل اقتصادي وتجاري ومالي مهم في تلك الدول التي تمتلك استثمارات كبيرة جداً في تركيا، فقد زاد عدد الشركات الألمانية المستثمرة في تركيا على 7 آلاف مقابل 2500 شركة برأسمال هولندي. 

ويفسر ذلك مواقف برلين التي تهربت وتتهرب دائماً من استعداء أنقرة بشكل مباشر، حتى عندما اتهم إردوغان في آذار/مارس 2017 المستشارة ميركل "بأنها تتبع أساليب النازية ضد الأتراك في ألمانيا"، كما وصف الحكومة الهولندية بأنها "من مخلفات العهد النازي الفاشي"، لأنها منعت التجمّعات والتظاهرات المؤيدة له خلال الحملة الخاصة بالاستفتاء على تغيير النظام السياسي في تركيا من برلماني إلى رئاسي في نيسان/أبريل 2017.

والسّؤال الأهم في هذه الحالة: هل ستلتقي الحسابات الروسية - الألمانية في التضامن مع الرئيس إردوغان في معركته الضاربة مع الرئيس بايدن، والذي يتوقع له الكثيرون أن يحسم جميع ملفات الخلاف مع أنقرة خلال فترة أقصاها حزيران/يونيو القادم، كما سيوضح أسس ومبادئ الحوار المستقبلي أولاً مع روسيا، وثانياً مع أوروبا، التي تعد ألمانيا الدولة الأهم فيها داخلياً وخارجياً؟ وكيف؟

وعلى الرغم من العداء التاريخي والتقليدي الروسي لألمانيا التي قتلت حوالى 20 مليون روسي في الحرب العالمية الثانية، فقد سعت موسكو دائماً لكسب ودّ برلين التي تصرفت خلال السنوات العشرين الماضية بشكل عقلاني جعل من ألمانيا شريكاً مهماً لروسيا في العديد من الملفات الأوروبية والدولية، بما في ذلك تهرب المستشارة الألمانية ميركل من أي موقف عدائي أو استفزازي ضد روسيا، وخصوصاً بعد أن نجحت في إقامة وتطوير حوار إيجابي مع الرئيس بوتين الذي يتكلم الألمانية بطلاقة، لأنه عمل مسؤولاً للاستخبارات السوفياتية "KGB" في ألمانيا الشرقية.

وستجعل كلّ هذه المعطيات من الثلاثي بوتين - إردوغان - ميركل عنصراً أساسياً في مجمل المعادلات والحسابات الإقليمية والدولية، وهي جميعاً ذات صلة مباشرة وغبر مباشرة بالموقع الاستراتيجي لتركيا، حتى لو تجاهلنا كلّ ذكرياتها التاريخية السيئة مع جوارها، ما دامت أميركا لم تكن موجودة قبل 250 عاماً. 

وفي المحصّلة، وأياً كان موقف بوتين وميركل، فقد بات واضحاً أنّ إردوغان لن يكون ضعيفاً تماماً في مساوماته مع الرئيس بايدن الذي سيحسب أكثر من حساب عندما سيقول له كن فيكون!