المحكمة الجنائية الدولية والعدالة الانتقائية.. استهداف روسيا واستبعاد أميركا

الولايات المتحدة استخدمت كل أساليب الترهيب والتسلّط والقوة، لإخضاع المحكمة الجنائية الدولية وجعلها أداةً طيّعة في يدها.

  • المحكمة الجنائية الدولية والعدالة الانتقائية.. استهداف روسيا واستبعاد أميركا
    المحكمة الجنائية الدولية والعدالة الانتقائية.. استهداف روسيا واستبعاد أميركا

من دون سابق إنذار، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي أمس، مذكّرات توقيف بحق كلّ من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والمفوّضة الروسية لحقوق الأطفال ماريا لفوفا بيلوفا.

وزعم قُضاتها أن الاثنين يتحمّلان مسؤولية فردية عن "جرائم الحرب المتمثّلة في الترحيل غير القانوني و"النقل غير القانوني للأطفال من المناطق المحتلة في أوكرانيا" بعد انطلاق العمليات العسكرية للبلاد العام الماضي.

وعلى المنوال ذاته، تحدّث الرئيس الأميركي جو بايدن، ومسؤولون كبار آخرون في إدارته، عن الحاجة إلى "العدالة في أوكرانيا"، حيث كان دعا سيد البيت الأبيض، إلى "محاكمة بوتين نفسه بتهمة، ارتكاب جرائم حرب". 

ومع أنّ هذا القرار، أثار عدة علامات استفهام لجهة توقيته الحساس، وأهدافه السياسية الخطيرة، بحيث لا يمكن فصله عن الهيمنة الغربية على المؤسسات القانونية الدولية ومن ضمنها المحكمة الجنائية.

لكنّ المثير للسخرية، هو التماهي الأميركي الغريب، والحماسة لموقف المحكمة الجنائية الدوليةـــ تأسست بموجب نظام روما الأساسي، وتبنّته الأمم المتحدة في عام 1998ـــ بالرغم من أن علاقتها بواشنطن، لها تاريخ حافل من التعقيدات والتوترات والتناقضات. 

وقد ظهرت خصوصاً، إبّان مقاربة الولايات المتحدة، لملفي ارتكابات وجرائم جنودها في أفغانستان، والنزاع القائم في أوكرانيا الذي فضح ازدواجية عمل المحكمة، وتحيّزها بشكل فاضح وصريح للغرب، ورضوخها لضغوطات واشنطن بالرغم من عدم انتمائها القانوني لهذه المحكمة. 

كيف تعاملت الولايات المتحدة مع المحكمة الجنائية الدولية منذ نشأتها حتى يومنا هذا؟  

في الواقع كانت واشنطن، واحدةً من سبع دول فقط، صوّتت ضد المعاهدة (وهي: قطر واليمن والعراق و"إسرائيل" وليبيا والصين والولايات المتحدة)، فلم ترسل الاتفاقية التي نصت على إنشائها، للتصديق عليها في الكونغرس، فضلاً عن أنّ الإدارات الأميركية المتعاقبة، رفضت بشكل أساسي اختصاص المحكمة.

ليس هذا فحسب، ففي عهد الرئيس جورج دبليو بوش، أقرّت الولايات المتحدة قانوناً سمح للرئيس "باستخدام جميع الوسائل الضرورية والمناسبة للإفراج" عن أي شخص أميركي أو متحالف محتجز أو مسجون من قبل المحكمة الجنائية الدولية (أُطلق على هذا القانون بشكل غير رسمي اسم "قانون غزو لاهاي").

وخلال عهد الرئيس باراك أوباما، حافظت إدارته على السياسة الرسمية المتبعة تجاه المحكمة، مع تغيير بسيط في التعاطي معها.

بالمقابل، اتخذت إدارة الرئيس دونالد ترامب، موقفاً شديد العدائية ضد المحكمة، زادتها حماسة الجمهوريين من الجناح الأكثر شيوعاً في الحزب، مثل مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون ووزير الخارجية مايك بومبي، الذي كان ادّعى أنّ المحكمة كانت "فاسدة"، فيما قال الأول إنها "ماتت بالفعل بالنسبة لنا".

ما هو سبب ازدراء واشنطن للمحكمة؟ وما هي قصة العقوبات على المدّعي العام بسنودة؟ 

عمليّاً، إنّ المشكلة الرئيسية في المحكمة، كما أوضحتها الإدارات الأميركية المتعاقبة، تتصل بفكرة أن محكمة دولية يمكن أن تحاكم مواطنين أميركيين، بمن فيهم جنود المارينز.

ولهذه الغاية، استخدمت أميركا كل أساليب الترهيب والتسلّط والقوة، لإخضاع المحكمة وجعلها أداة طيّعة في يدها، ونجحت بذلك، عبر دفعها المدعية العامة السابقة للمحكمة فاتو بنسودة إلى تقديم استقالتها من منصبها.

لماذا غضبت أميركا من بسنودة؟ 

في الحقيقة، سلّطت أزمة أوكرانيا، على فساد العدالة الدولية، حيث دفعت بسنودة ـــ كانت في المنصب منذ عام 2012 ــ ثمن تجرّؤها على الولايات المتحدة، وإصرارها على فضح ارتكاباتها، مع شروعها بفتح إجراءات قضائية في جرائم الحرب المرتقبة من قبل أميركا وحلفائها في أفغانستان، وهو أول تحقيق للمحكمة من شأنه أن يشارك فيه جنود أميركيون.

لذلك، عندما وافقت المحكمة الجنائية الدولية على التحقيق بفظائع المارينز في كابول وغيرها من المدن الأفغانية في عام 2020، ردّت إدارة ترامب حينها بفرض عقوبات عليها في حزيران/يونيو، 2020. 

المخزي، أنه في غضون أسابيع، وجدت بنسودة أن البنوك أغلقت حساباتها، وألغت بطاقات الائتمان الخاصة بها. حتى أن أقاربها تمّ تجميد أصولهم في المصارف، امتثالاً للقواعد التي وضعتها وزارة الخزانة الأميركية.

اللافت، أنه ومع مجيء إدارة بايدن تحسّنت العلاقات (التي وصلت إلى الحضيض)، لكن الأمر استغرق شهوراً حتى أزيلت العقوبات المفروضة على بنسودة، وغيرها من كبار المسؤولين في المحكمة على خلفية التحقيق بشأن ما إذا كانت القوات الأميركية قد ارتكبت جرائم حرب في أفغانستان.

ولاحقاً استقالت بنسودة بعد ذلك بوقت قصير في نهاية فترة ولايتها، وحلّ محلّها المحامي البريطاني كريم خان.

علاقة العداء القديمة بين أميركا والمحكمة لم تختف تماماً، إذ أن البنتاغون كان يمنع مشاركة الأدلة مع المحكمة، خشية أن يخلق ذلك سابقة يمكن استخدامها ضد المواطنين الأميركيين.

كيف تعامل خان مع قضيتي أفغانستان وأوكرانيا؟

في أعقاب استلام المدعي العام الجديد للمحكمة لمنصبه، شكّك خبراء القانون الدولي، بحياده ومهنيّته، بسبب الطريقة غير العادلة والانتقائية في اختياره لملفات محدّدة، واستبعاده أخرى.

لذا، وفي الوقت الذي، فتح خان ما وصفته المحكمة بأنه "تحقيق في جرائم الحرب المحتملة والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية"، بعد رحلته الأخيرة إلى أوكرانيا.

رضخ خان للضغوطات الأميركية واستجاب لإملاءات واشنطن، عبر تجاهله، وصرفه النظر عن الجرائم الأميركية في أفغانستان، وحصر الأمر، بالفترة بعد سيطرة طالبان على ذلك البلد في عام 2021، بحيث أعلن أنه سيركّز على الجرائم المزعومة التي ارتكبتها الجماعة المتطرّفة أي "طالبان" و"داعش" تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي في خراسان.

إضافة إلى ذلك، لم يتطرّق خان أبداً إلى ممارسات القوات الأوكرانية خصوصاً وأن جهات دبلوماسية غربية، كانت تحدّثت عن ممارسات وارتكابات مماثلة قام بها جنود أوكرانيون.

وفي هذا السياق، ذكرت وكالة رويترز وصحيفة نيويورك تايمز أن المدعي العام كان يخطّط لإصدار أوامر اعتقاله الأولى ضد الروس الذين يُزعم أنهم مسؤولون عن الاختطاف الجماعي للأطفال واستهداف البنية التحتية المدنية. المفارقة أنه لمتابعة الأمر بشكل كامل، سيطلب خان مساعدة أميركا وهي الدولة التي عاقبت سلفه. 

 ماذا عن الموقف الروسي من المحكمة الدولية؟ 

عملياً، وبعيداً عن التسييس والانتقائية في عملها، ليست للمحكمة الجنائية الدولية ولاية قضائية على الدول التي ليست طرفاً فيها.

ومع أنّ روسيا، مثلها مثل الولايات المتحدة، وقّعت على قانون روما الأساسي لكنها انسحبت منه بعد ذلك. وتبعاً لذلك، قال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف الثلاثاء الماضي للصحافيين: "نحن لا نعترف بهذه المحكمة، أو باختصاصها".

هل سيدفع العداء لروسيا بواشنطن إلى إصلاح علاقتها بالمحكمة؟ 

ليس من المستبعد، أن تكون الأزمة الأوكرانية فرصة ومدخلاً لاستئناف علاقة الولايات المتحدة بالمحكمة الجنائية الدولية، والدليل على ذلك، أنه في العام 2022، أقرّت مجموعة من المشرّعين بقيادة السيناتور الجمهوري المتشدّد ليندسي غراهام، قانوناً جديداً سمح بمزيد من المجال للتعاون مع المحكمة، حيث أشاد غراهام، ببوتين لإعادة تأهيل "المحكمة الجنائية الدولية في نظر الحزب الجمهوري والشعب الأميركي" خلال رحلة إلى لاهاي.

ما ينبغي التوقّف عند دلالاته (وانعكاساته على العدالة الدولية) هو أن المحكمة، تعتمد على القدرات الاستخباراتية الهائلة للحكومة الأميركية في أي قضية قانونية في المستقبل، وهذا سينطبق حتماً على أوكرانيا، حيث تؤكد المحكمة أنه يمكنها متابعة القضايا في أفغانستان وأوكرانيا باعتبارهما من الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية. 

في المحصّلة، وبما أنّ العدالة لا تتجزأ، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا لا يكمل المدعي العام خان الذي يضع نصب عينيه حالياً، روسيا فقط، ملف التحقيق في جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي ارتكبتها "إسرائيل" (وما زالت) في الأراضي الفلسطينية المحتلة على مرأى ومسمع العالم كله، وبدم بادر؟ حقاً إنه زمن اللاعدالة والنفاق الغربي بأبهى صوره الفاضحة.

المصادر: 

1 ــ https://www.washingtonpost.com/world/2021/03/04/trump-biden-icc-sanctions/

2 ـ https://www.nytimes.com/2020/10/18/world/europe/trump-sanctions-international-criminal-court.html

3  ـــ https://www.theguardian.com/world/commentisfree/2023/feb/24/people-ukraine-vladimir-putin-trial-war-crimes

4 ــ https://www.hrw.org/news/2020/09/02/qa-international-criminal-court-and-united-states

5 ــ https://www.washingtonpost.com/archive/politics/2001/08/16/un-funds-in-crossfire-over-court/061e2022-046b-4d5b-9b72-bf139ce5fdae/?itid=lk_inline_manual_22

6 ــ https://www.foreignaffairs.com/articles/afghanistan/2021-11-03/iccs-flawed-afghan-investigation

7ــ https://www.nytimes.com/2022/04/11/us/politics/us-russia-ukraine-war-crimes.html

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.