روسيا: متغيرات الوضع الميداني بداية العام والتوقعات

نجاح القوات الروسية في توجيه ضربة قاصمة إلى تجمع تشكيلات القوات الأوكرانية في جنوب غرب الدونباس، وبخاصة معركة أرتيوموفسك-باخموت الكبرى، يجعل حظوظ كييف في تنفيذ مبادرات هجومية واسعة خلال الربيع ضعيفة للغاية.

  • متغيرات الوضع الميداني بداية العام والتوقعات
    لم تعد الأمور على حالها، ليس في روسيا فحسب، إذ إننا أصبحنا شهوداً على متغيرات تكتونية الطابع ومفصلية وتاريخية

عام حل بأثقاله منذ بداياته، وروسيا تخوض أخطر مواجهة في تاريخها بصورة غير مباشرة مع الحلف الأنغلوسكسوني الأطلسي في مسرح العمليات العسكرية على تخوم حدودها مع أوكرانيا. من بديهيات توقعات مسار الأحداث وتطورها أن تستمر الحرب بالحد الأدنى طوال العام الجديد 2023، ما يعني أن مزيداً من التحديات الكبرى والقاسية تنتظر روسيا التي لم يبقَ لديها خيار آخر سوى الاستمرار في المواجهة والقتال حتى تحقيق الأهداف المحددة والنصر.

هذه المواجهة تفرض على الدولة ممارسة أقصى درجات التفاعل والتعاون الإيجابي مع شرائح المجتمع ومكوناته كافة، وتأمين مقومات الصمود لمواطني الأقاليم التي انضمت حديثاً إلى الاتحاد الروسي، والعمل على استكمال عملية اندماجها في الحياة الاقتصادية والإدارية والمعيشية الروسية العامة، فضلاً عن تقبل الخسائر وتقديم التعويضات المناسبة، ولا سيما بعد الحوادث المأساوية التي سقط نتيجتها عشرات الجنود من القوات الروسية، معظمهم من قوات التعبئة في ماكييفكا في جمهورية دونيتسك الشعبية، بسبب استهتار بعضهم في اتخاذ إجراءات حماية بديهية. لا بد من إدراك القيادة الروسية أن تكرار الأخطاء القاتلة بمنزلة خيانة عظمى تستدعي الحزم في اتخاذ القرارات المصيرية.  

لم تعد الأمور على حالها، ليس في روسيا فحسب، إذ إننا أصبحنا شهوداً على متغيرات تكتونية الطابع مفصلية وتاريخية. هذا المسار مستمر في تكوين ملامح عالمية لم تكن واردة خلال العقود الأخيرة. من ناحية أخرى، قد تشكل الحرب فرصة تاريخية إيجابية لروسيا لتحجيم فساد طبقة الأوليغارشية المتفشي في مفاصل الدولة كافة.

كذلك، فإن الحرب المفروضة التي تخوضها روسيا للدفاع عن وجودها وأمنها الوطني هي حاجة وضرورة لإعادة صقل العقيدة الوطنية وبناء ما جرى هدمه من عقيدة وطنية ومقومات القطاعات الاقتصادية والاجتماعية-الثقافية والصناعية-التكنولوجية خلال فترة الانحلال التي تلت تفكك الاتحاد السوفياتي.  

وبالانتقال إلى متابعة الوضع الميداني، فبعد استراحة عملياتية وجيزة في تقدم القوات البرية لم تشمل عمل سلاح الجو والضربات الصاروخية المتواصلة خلال فترة الأعياد، استأنفت القوات المسلحة الروسية هجماتها في اتجاه سوليدار، وأجبرت القوات الأوكرانية على التراجع عن خط الدفاع الرئيس المحيط بالمدينة، وخصوصاً في أجزائه الغربية، حيث كانت القوات الأوكرانية تتحصن في المباني المرتفعة ومناجم الملح. 

الضغط على القوات الأوكرانية مستمر من شمال المدينة وجنوبها، ويأتي كجزء من الهجوم الأساس على أرتيوموفسك-باخموت. المعطيات الميدانية تفيد بتقدم ديناميكي مستمر في محاور الهجوم، إذ سجلت القوات الروسية نجاحاً ملموساً في تقدمها على اتجاهي شمال سوليدار وجنوبها، وهي مستمرة في سعيها لإحكام الطوق الدائري حول المدينة. ومنذ يومين، تحدث الرئيس الأوكراني بنفسه عن صعوبة الوضع بالنسبة إلى قواته في هذا الاتجاه، ما دعا الأركان الأوكرانية إلى زج احتياطياتها من المناطق كافة في اتجاهات سفاتوفا سوليدار وأرتيوموفسك.

التكتيك نفسه المتبع في تطويق سوليدار يطبق في الهجوم الأكبر على أرتيوموفسك-باخموت. وبما أن أرتيوموفسك وسوليدار تقعان على مقربة من بعضهما البعض، فإن ضربات الهجوم الالتفافي من جنوب سوليدار تعدُّ ضربات هجومية التفافية من شمال أرتيوموفسك-باخموت.

القوات الروسية تفكك تحصينات القوات الأوكرانية وخطوط دفاعها المتعددة على محور كليشييفكا – جنوب غربي باخموت، ويتوقع الخبراء العسكريون سقوط هذه الخطوط الدفاعية في الوقت القريب، إضافة إلى سقوط خطوط دفاع أوبيتنويه الأقرب إلى باخموت من الجنوب.

من هذا المنطلق، تعدُّ مجموعة تشكيلات القوات الروسية المتمركزة والمنطلقة بعملياتها الهجومية من جنوب باخموت عند ضواحي دروجبا ومنطقة ديلييكي السكنية هي القوة الرئيسة ذات الطابع التكتيكي العملياتي، التي يعتمد عليها في تنفيذ عملية إحكام السيطرة على محيط باخموت.

وتتبع القوات الروسية كذلك تكتيك استهداف الخطوط الخلفية للتشكيلات الأوكرانية في غرب أرتيوموفسك-باخموت، والتركيز على الإمدادات العسكرية التي تتقاطر من أنحاء أوكرانيا كافة لتدعيم التصدع الجبهوي الحاصل في هذا الاتجاه المتبلور في انتقال زمام المبادرة إلى القوات الروسية، خصوصاً مع استمرار فشل كل الهجمات المضادة التي لا تزال تحاول القوات الأوكرانية شنها في هذا الاتجاه. 

ومع خرق دفاعات القوات الأوكرانية في محيط كليشييفكا، يصبح صمود القوات الأوكرانية أمام التقدم الروسي أكثر صعوبة. مع سقوط باخموت شبه الحتمي بيد القوات الروسية رغم ضراوة المواجهة، سيكون من الصعوبة بمكان، بل من المستحيلات، أن تتمكن القوات الأوكرانية من القيام بعمليات تقدم وهجمات واسعة النطاق خلال فترة الشتاء.

كما أن تدني درجات الحرارة في الأيام المقبلة إلى مستويات قياسية يجعل تلك القوات في وضع حرج للغاية، وكلام رئيس الاستخبارات الأوكرانية كيريل بودانوف يتطابق مع تلك التوقعات. وقد جاء في حديثه أن توقُّع قيام القوات الأوكرانية بهجوم وتقدم واسع ممكن فقط خلال الربيع المقبل، ما يعني أن القيادة الأوكرانية تدرك استحالة قيام قواتها بأي تحرك وازن موسع قبل حلول الربيع، وذلك في الاتجاهات كافة. 

ولا يرى الخبراء العسكريون أفقاً لنجاح محاولة التقدم الأوكرانية الوحيدة المرصودة حالياً في اتجاه كريمينوي وسفاتوفا شمال سيفيرودونيتسك في جمهورية لوغانسك الشعبية، إذ إن القوات المدفعية والصاروخية الروسية تسجل نجاحاً في استهداف كل محاولات التقدم المذكورة، وتستهدف خطوط إمدادها وخطوطها الخلفية.  

نحن ننتظر متغيراً حاسماً في معركة الدونباس خلال شهر كانون الثاني/يناير الحالي، إذ إن موازين الوضع الميداني تشير إلى قرب نجاح القوات الروسية في تحقيق أبرز الأهداف المعلنة للعملية العسكرية، وهي حماية الدونباس وتحريرها.

الأحداث الميدانية الحالية تحدد مصير الحملات القتالية لشتاء 2023، وترسم مستقبل المواجهة المقبلة لربيع وصيف العام الذي بدأ نارياً بالمعايير كافة، فنجاح القوات الروسية في توجيه ضربة قاصمة إلى تجمع تشكيلات القوات الأوكرانية في جنوب غرب الدونباس، وبخاصة معركة أرتيوموفسك-باخموت الكبرى، يجعل حظوظ كييف في تنفيذ مبادرات هجومية واسعة خلال الربيع ضعيفة للغاية. 

وفي لمحة لوصف وضعية المواجهة جنوب الدونباس، جنوب دونيتسك، فإن القوات الروسية تقوم بعمليات استطلاع بالنار لمواقع القوات الأوكرانية في محيط أفدييفكا وفوديانوفا وبيرفامايسكايا ومارينكي، أي اتجاهات غرب دونيتسك؛ عاصمة الجمهورية الشعبية، والهدف هو شل قدرة القوات الأوكرانية على التحرك ومنعها من تقديم أي دعم لتشكيلاتها وخطوط دفاعاتها المتصدعة في أرتيوموفسك-باخموت شمالاً، حيث يتركز الهجوم الروسي المركزي.  

أما في جنوب أوغليدار واتجاهات زاباروجيا، فيُسجَّل تفعيل كثافة الضربات المدفعية المتبادلة بين الجانبين، ونذكِّر بتسجيل نجاح ميداني روسي في الأيام الماضية خلال استطلاع بالنار قامت به في اتجاه غوليبولي أفضى إلى سيطرتها على بلدة دوروجنيانكا. هذا ما ترى فيه الأركان الأوكرانية إنذاراً خطراً لتطور متغيرات التموضع في هذا الاتجاه. 

وبالانتقال إلى اتجاه خيرسون، فهو لا يشهد أي متغير خلال الأسابيع الماضية، ومن الصعب توقع حصول متغير جدي في هذا الاتجاه، ولا سيما أن نهر الدنيبر يشكل عائقاً جغرافياً صعباً أمام الجيشين.

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.