من القوقاز إلى آسيا الوسطى... هل من ربيع تركي؟

تركيا الآن بوضعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بل وحتى الديني في حالة لا تحسد عليها أبداً.

  • الرئيس التركي.
    الرئيس التركي.

بعد الدور السياسي والعقائدي الذي أداه إردوغان في بدايات "الربيع العربي"، والذي اكتسب طابعاً عسكرياً بدخول القوات التركية سوريا في آب/أغسطس 2016 بضوء أخضر روسي، تحوّلت تركيا إلى لاعب رئيسي في مجمل تطورات سوريا على الصعيد الداخلي والإقليمي والدولي.

واستغل إردوغان هذا التفوّق السياسي والعسكري والنفسي فأصبح لاعباً رئيسياً في مجمل تطورات المنطقة، بعد أن أرسل الجيش التركي والمرتزقة السوريين إلى ليبيا، ثم أقام العشرات من القواعد العسكرية في الصومال وشمال العراق، وأرسل قواته إلى قطر للدفاع عن حليفه العقائدي ومموّله المالي تميم آل ثاني ضد التهديدات السعودية والإماراتية والبحرينية والمصرية في حزيران/يونيو2017.

وحقّق كلّ ذلك لإردوغان مكاسب نفسية إضافية على الصعيدين الإقليمي والدولي، ولا سيما بعد أن أصبحت تركيا لاعباً رئيسياً في أحداث ناغورنو كاراباخ، حيث تدخّلت عملياً إلى جانب أذربيجان التي حظيت في الوقت نفسه بدعم كبير جداً من الكيان الصهيوني.

وساعد ذلك الرئيس إردوغان لزيادة حظوظه في المساومة مع كل الأطراف الإقليمية والدولية، باعتبار أن أذربيجان من أهم وأغنى دول القوقاز القريبة من البحر الأسود وبحر قزوين المهمين جداً بالنسبة لروسيا وإيران العدوَّين التقليديّين والتاريخيّين للدولة العثمانية. ويقول إردوغان إنه امتداد لهذه الدولة وإمبراطوريتها ليس فقط سياسياً وقومياً بل دينياً وتاريخياً.

يفسّر ذلك الاهتمام التركيّ السريّ منه والعلنيّ بمنطقة آسيا الوسطى حيث الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي، وهي تركمنستان وأوزبكستان وقرغيزيا وكازاخستان، وهي جميعاً ومعها أذربيجان كانت الحديقة الخلفية للاتحاد السوفياتي الذي أسقطه الغرب ثم مزّقه بنظرية الحزام الأخضر الإسلامي.

وهو ما يسعى إليه الغرب، أي أميركا بالدرجة الأولى الآن أيضاً، وربما هذه المرة عبر تركيا التي تقول إن شعوب الجمهوريات المذكورة ذات أصل تركي، حالها حال الأقليات المسلمة التي تعيش في جمهوريات الحكم الذاتي داخل روسيا، كما هو الحال بالنسبة للأقلية المسلمة في شبه جزيرة القرم. وقال إردوغان أكثر من مرة إنه لن يعترف بضم روسيا لها كما أنه سيستمر في دعم المسلمين هناك من أجل حقوقهم.

الرئيس إردوغان وهو على نهج الرئيس الراحل تورغوت أوزال الذي جمع زعماء الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى في أول قمة تركية في تشرين الأول/أكتوبر 1992 في أنقرة وتحت شعار "أمة تركية واحدة من الأدرياتيكي إلى حدود الصين"، يبذل قصارى جهده لكسب الجمهوريات المذكورة الغنية جداً بثرواتها الطبيعية إلى جانبه في مساوماته مع الأطراف الإقليمية والدولية، وأهمها روسيا والصين وإيران، والأهم من كل ذلك أميركا، عدو الدول الثلاث.

ويزيد ذلك من أهمية اللقاء المهم بين الرئيس بايدن وزعماء جمهوريات آسيا الوسطى الخمسة في نيويورك على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولم يلتقِ خلالها الرئيس إردوغان ورجّح عليه نتنياهو الذي فاجأ الجميع بلقائه إردوغان الذي أصر عليه أن يزور تركيا بأقرب فرصة بعد أن ألغى زيارته إلى أنقرة في 27 تموز/يوليو الماضي.

وصادف كل ذلك التصعيد الجديد في كاراباخ بعد أيام من المناورات الأرمينية -الأميركية التي أزعجت موسكو مع استمرار رئيس الوزراء الأرميني باشينيان في مساعيه للتودّد للعواصم الغربية خاصة واشنطن وباريس.

ويفسّر ذلك استنجاد باشينيان بواشنطن ضد باكو المدعومة من أنقرة في الوقت الذي وصل فيه وزير الدفاع الروسي شويغو فجأة طهران، الطرف الأهم في مجمل تطورات القوقاز، خاصة بعد المعلومات التي تتحدّث عن تنسيق عسكري واستخباراتي واسع وخطير بين "تل أبيب" وباكو التي وقّعت على العديد من اتفاقيات التعاون العسكري والاستخباراتي مع الكيان الصهيوني، الذي لن يتردّد في استخدام الأراضي الأذربيجانية ضد إيران.

ويعرف الجميع أن إيران بدورها تراقب تطورات القوقاز وآسيا الوسطى عن كثب، ولا سيما بعد أن أعلنت أنقرة أكثر من مرة أنها ستقف إلى جانب أذربيجان في حال تعرّضها لأيّ "هجوم إيراني". وهو ما يغذّي الشعور القومي والطائفي لدى بعض الأوساط التركية المعروف عداؤها التاريخي لإيران التي تحوّلت إلى هدف مباشر لهذه الأوساط بعد دعم إيران لسوريا في سنوات ما يسمى بـ "الربيع العربي"، وهي ما زالت كذلك على الرغم من التحالف الخليجي-الإقليمي-الصهيوني ضدها. ومن دون أن يمنع ذلك طهران ومعها موسكو الحليف الإقليمي والدولي الأهم للرئيس الأسد من الاستمرار في الحوار مع أنقرة في إطار أستانة.

واستغلّ ذلك الرئيس إردوغان فقام بترسيخ الوجود العسكري والأمني والنفسي التركي في سوريا وعبرها إقليمياً ودولياً، مستفيداً من استمرار تآمر العواصم العربية المعروفة على سوريا على الرغم من كلّ ما يعاني منه الشعب السوري من مآسٍ فاقت حدود الصبر الإنساني. ومن دون أن يكون ذلك كافياً لتحريك ضمير ووجدان حكّام هذه الأنظمة والموالين لهم من المتورّطين بكلّ أشكالهم وأنماطهم وعلى المستويات والأصعدة كافة. 

وربما لهذا السبب ترفض أنقرة باستمرار أي اقتراح روسي أو إيراني لسحب القوات التركية من سوريا، والاتفاق مع دمشق على صيغة جديدة وعملية تنهي الأزمة السورية في إطار وحدة التراب والسيادة السورية.

وهذا ما ألمح إليه إردوغان في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، متحجّجاً بالخطر الإرهابي الذي يستهدف تركيا من سوريا، وعلى حد قوله ليؤكد مرة أخرى أن اللاجئين السوريين سيبقون في تركيا التي تشهد حالات من التوتر النفسي شعبياً بسبب مشاكل اللاجئين، بعد أن تحوّلوا إلى مادة مربحة بالنسبة لكل من يخطّط ويعمل على استعداء الأتراك للعرب والعرب للأتراك.

ويخدم ذلك مخططات ومشاريع "تل أبيب" وواشنطن التي يبدو واضحاً أنها لا تفكّر بالخروج من سوريا عبر المؤامرات المستمرة في السويداء وشرق الفرات، بل وحتى إدلب وجوارها. وسط المعلومات التي تتوقّع فتح قنصلية أميركية في منطقة "الحكم الذاتي الكردي" شرق الفرات، وصادفت لقاء الرئيس إردوغان المفاجئ مع المبعوث الأميركي السابق في سوريا جيمس جيفري في نيويورك على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، ليؤكد بذلك مراقبة أنقرة لتطورات الوضع في سوريا بانعكاساته على العراق لما لجيفري من خبرة كبيرة وواسعة في تطوّرات هذين الملفين منذ البداية بانعكاس ذلك على الوضع الإقليمي عموماً. 

ويبقى الرهان كالعادة على مستقبل العلاقة بين أنقرة وواشنطن التي لن تتأخّر في العودة إلى الحوار معها، وبمعنى آخر تحالفها الاستراتيجي مع الرئيس إردوغان وتلبية شروطه ومطالبه طالما أن أميركا كانت وما زالت بحاجة إليه، والآن أكثر من أي وقت مضى، ليساعدها في تضييق الحصار على روسيا عبر حديقتها الخلفية في القوقاز وآسيا الوسطى، وعبر ربيع تركي سلباً كان أم إيجاباً، يخدم الأجندات الأميركية ومعها الصهيونية، كما كان ذلك في سنوات ما يسمّى بـ "الربيع العربي" بشعاراته الطنّانة.

ومن دون أن يكون واضحاً، هل ومتى وكيف ومقابل ماذا؟ سيقبل الرئيس إردوغان بهذا الدور "البطولي" بعناصره المختلفة عن دوره في "الربيع العربي"، ولولاه لما حقّق إردوغان ما حقّقه من "انتصارات" مهمة على صعيد السياسة الخارجية طيلة عشرين عاماً ماضية، وحتى لو كان ثمن ذلك غالياً جداً على الصعيد الداخلي. فتركيا الآن بوضعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بل وحتى الديني في وضع لا تحسد عليه أبداً، وإردوغان غير مبالٍ بكل ذلك لأنّ همه الوحيد هو البقاء في السلطة إلى ما لا نهاية بدعم مباشر أو غير مباشر من كلّ الذين استفادوا ويستفيدون منه الآن ومستقبَلاً وهم كثر ومنهم نتنياهو.