إثيوبيا وإريتريا... صراع على أعتاب المستقبل
تتخوف إرتيريا من عودة النفوذ الاثيوبي على ساحتها حال منحت جارتها منفذاً بحرياً دائماً، كما تتخوف من أن يسهم ذلك في تقويض التوازن القائم بينهما.
-
التوتر بين اثيوبيا واريتريا بلغ نقطة حرجة.
تشكل سواحل افريقيا الشرقية مسرحاً متزايدا الأهمية في التنافس الجيواستراتيجي الاقليمي والدولي، بحكم موقعها على المحيط الهندي والبحر الأحمر، وبفضل إرتباطها المباشر بمضيق باب المندب الذي يُمثل أحد أهم الممرات البحرية الحيوية للتجارة العالمية وإمدادات الطاقة.
هذا الموقع جعل المنطقة نقطة إلتقاء بين المصالح الاقتصادية والعسكرية والأمنية لقوى عظمى مثل امريكا والصين وروسيا، وقوى كبرى مثل فرنسا، وأخرى صاعدة مثل تركيا، وفي تماس مع تلك المصالح تأتي الشواغل والأطماع الاسرائيلية، كما تأتي مصالح دول أخرى مثل الامارات.
في سياق هذا التنافس، برز ميناء عصب الأريتري بوصفه أحد أبرز نقاط الارتكاز الجغرافية ذات القيمة الاستراتيجية، خاصة لاثيوبيا وشركائها الاقليميين والدوليين، في ظل سعيها الدؤوب لتعزيز التوازن الاستراتيجي اقليمياً، وفي مسار تعظيم مكانتها الاقليمية المنطلقة من تاريخ وأطماع إمبراطورية. وقد أججت مطالبتها بهذا الميناء التوتر بينها وإريتريا.
الخلفية التاريخية للصراع البحري
برزت إثيوبيا للوجود دولة حبيسة، لكنها في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1962، ضمت إليها إريتريا بدفع دولي وغربي، فأصبحت الأخيرة جزءا من الامبراطورية الاثيوبية، وهو الذي أتاح لها منفذا استراتيجيا على البحر الأحمر عبر مينائي إرييتريا: عصب ومصوع، ومنذ ذلك الوقت اعتبرت اثيوبيا هذا البحر امتدادا طبيعياً لحدودها، غير أن استعادة اريتريا لاستقلالها عام 1993 أفقدها هذه الميزة، فعادت إلى وضعها التاريخي والطبيعي دولة حبيسة بلا سواحل.
بعد استقلال إريتريا، واصلت اثيوبيا في استعمال الموانئ الاريترية حتى اندلاع الحرب بين الجارتين (1998-2000)، حين اضطرت إلى تحويل حركة صادراتها ووارداتها إلى الموانئ السودانية، ثم إلى موانئ جيبوتي بعد فشلها في الحصول على منفذ سيادي في الساحل السوداني.
ورغم توقيع اتفاق سلام بين أديس أبابا وأسمرا بوساطة جزائرية بنهاية عام 2000، فإن العلاقات بين الطرفين ظلت متوترة، إلى أن جاء اتفاق آبي أحمد وأسياس أفورقي عام 2018 ليفتح أفقاً جديداً في العلاقات، وقد بادرت أسمرا بدعم أديس أبابا عسكرياً، بل تحالفت معها في حرب التغراي (2020-2022)، لكن هذا التحالف تلاشى بسرعة مع تعقد المشهد الاقليمي والدولي، ليعود ملف الموانئ للصدارة مجدداً، ويتحول ميناء عصب إلى محور نزاع جديد.
الحرب مبدؤها كلام
زادت تصريحات المسؤولين الاثيوبيين في الآونة الأخيرة حدة التوتر، إذ قال أبي أحمد عبر التلفزيون الحكومي: " كان البحر الأحمر جزءا من إثيوبيا قبل 30 عاماً، ووقع خطأ بالأمس، وسيصحح غداً". فيما أكد اللواء تيشومي جيميشو، مدير العلاقات الدولية في وزارة الدفاع: " لإثيوبيا حق تاريخي في الوصول للبحر الأحمر وامتلاك ميناء عصب... هذه مسألة وجود وطني"، من جانبه، شدد وزير الدولة بالمالية "أيوب تكالين": "إثيوبيا مستعدة للوقوف بقوة ضد من يعارض مصالحها الوطنية".
في المقابل، ردت إريتريا بحدة، حيث وصف وزير الاعلام يماني قبرمسقل التصريحات الاثيوبية بأنها "تهور وعودة إلى دق طبول الحرب، ووصفها بأنها تشويه محتقر للتاريخ الاريتري"، أما "السفيرة صوفيا تسفا ماريام"، فصرحت قائلة: "لا يمنح أي بيان صحافي أو رقم ديموغرافي أو غطرسة تاريخية دولة الحق في ساحل دولة أخرى".
تواجه السلطة الاثيوبية تحديات داخلية متصاعدة، وتوظف خطابها هذا لتعبئة الداخل وصرف الانظار عن أزماته، فالمطالبة بالمنفذ البحري مثلها مثل سد النهضة، تُمثل أداة لإعادة انتاج شرعية سياسية بعد التآكل الذي أصابها بفعل الصراعات الاثنية والسياسية، ومن تلقاء الأوضاع الاقتصادية المأزمومة، على أن هذا التصعيد يفتح الباب أمام مخاطر جديدة تنذر بالعسكرة والعودة إلى الحرب، فالحرب مبؤها كلام كما تقول العرب.
الحراك العسكري في الجانبين
تشير تقارير صحافية إلى أن الحكومة الاثيوبية شكّلت آلية عسكرية أمنية خاصة للتخطيط والتعبئة، وبدأت بتحريك وحدات عسكرية نحو الحدود المشتركة. في المقابل، عززت إريتريا وجودها العسكري في الجنوب، وأقامت تحصينات على طول الساحل.
المخاوف الاريترية
تنظر إرتيتريا إلى المطلب الاثيوبي بشأن ميناء عصب بوصفه تهديدا مباشرا لسيادتها، وخطراً على استقلالها الذي انتزعته بعد صراع طويل، فالميناء يُمثل رمزاً سيادياً، وورقة استراتيجية مكنتها من تحقيق ميزة استثنائية على إثيوبيا الحبيسة.
وتتخوف إرتيريا من عودة النفوذ الاثيوبي على ساحتها حال منحت جارتها منفذاً بحرياً دائماً، كما تتخوف من أن يسهم ذلك في تقويض التوازن القائم بينهما، وتخشى أن يتحول أي وجود إثيوبي في عصب إلى نقطة إنطلاق للضغط العسكري والأمني والسياسي عليها، فضلاً عن خسارة موارد اقتصادية وسياسية مهمة، خصوصاً إذا حظي المطلب الاثيوبي بدعم قوى دولية كبرى.
أبعاد ودوافع النزاع
يبلغ عدد الدول الحبيسة في العالم 49 دولة، بينها (16) دولة في إفريقيا، و(14) في آسيا و (15) في أوروبا ودولتين في أمريكا الجنوبية ومثلهما في قارت أخر. وقد وضعت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، أسساً لمعالجة أوضاع الدول الحبيسة ليس من بينها احتلال أراض دولة أخرى أو فرض سيادة على ميناء دولة جارة.
لقد بدأت الدعاوى الاثيوبية بشأن ميناء عصب في ظل التطورات التي يشهدها البحر الأحمر بدخول اليمن في معركة نوعية ومفتوحة، اسناداً لقطاع غزة، وجاءت بعد التشجيع والدعم الفرنسي لاثيوبيا من أجل بناء قاعدة عسكرية في البحر الأحمر منذ أن وقعت معها اتفاقاً بهذا الخصوص في 14 آذار/مارس 2019، وبعد ان قامت فرنسا بتأهيل دفعتين من ضباط الجيش الاثيوبي في مجال العمل العسكري البحري خلال هذا العام.
لهذا فإن الحراك الاثيوبي ليس مدفوعاً فقط بالتقديرات الذاتية للدولة، إنما يلعب الخارج فيه دوراً مهماً، وهذا الدور كذلك ليس حصراً على فرنسا وحدها، فشركاء أديس أبابا الاقليميين والدوليين كثر، وبينهما خيط ناظم، يجمعهم على مصالح تخدم التوجهات الاستراتيجية للغرب الأطلسي المتصلة بأمن "إسرائيل" وبالأطماع في موقع وقدرات شرق افريقيا.
أفق الأزمة ومستقبل النزاع
بلغ التوتر بين اثيوبيا واريتريا نقطة حرجة مع تصاعد التحضيرات العسكرية في البلدين، الأمر الذي فتح الباب أمام احتمالات متعددة للتصعيد العسكري والأمني والسياسي، ودفع الأزمة إلى طور تتزايد فيه المخاطر، وتتجلى في ثلاثة مشاهد:
1) مشهد الحرب المحدودة: إندلاع مواجهات محدودة عبر عمليات عسكرية نوعية تهدف إلى تحقيق السيطرة الاثيوبية على ميناء عصب، وهو مشهد محتمل، من شأنه تأجيج الأزمة وإحداث ارتدادات سلبية على الاقليم.
2) مشهد الحرب الشاملة: وهو المشهد الأخطر، إذ يعيد إلى الذاكرة حرب العامين (1998-2000) التي راح ضحيتها نحو 70 ألف قتيل وأعداد مضاعفة من الجرحى، وسيلقي هذا المشهد بظلال كارثية على البلدين وعلى مجمل الأوضاع في شرق إفريقيا، كما سيزيد من حدة عدم الاستقرار في مناطق ملتهبة داخل اثيوبيا وفي السودان وجنوب السودان. ويعد هذا المشهد ممكناً لكنه غير راجح.
3) مشهد التسوية: وهو مشهد مرغوب فيه على نطاق واسع، لكنه يفترض تدخل استباقي اقليمي أو دولي، ودون هذه التسوية تحديات، أبرزها: الانقسام الاقليمي والدولي بشأن الموقف من موضوع النزاع، وستعمل هذه القوى -حال تدخلها- لجعل التسوية بينها في قضايا القرن الافريقي أولوية أولى تدخل من خلالها على ملف التسوية بين البلدين. كما يبرز تحد آخر يتمثل في إصرار إثيوبيا على بسط سيادتها على الميناء بدلاً من الاكتفاء بتأمين احتياجاتها التجارية.
إن الحرب ليست قدراً محتوماً، لكنه احتمال واقعي إذا استمرت لغة التهديد والتحشيد دون وساطة تسبق الوقوع في المحظور. وساطة تنزع فتيل الأزمة وتنقي الأجواء، وبغير ذلك يصبح راجحا تحقق المشهد الأول ثم يتبعه تحقق الوساطة الواردة في المشهد الثالث، وهنا يتحقق الجمع بين المشهدين.
ميناء عصب ليس مجرد منشأة بحرية، بل هو رمز لصراع أوسع، صراع على الجغرافيا والسيادة والذاكرة التاريخية، ويمثل حلم مؤجل ومنفذ مفقود عن الاثيوبيين، بينما يرى فيه الاريتريون خطأ للدفاع عن سيادتهم. وبين الحلم والرفض يتشكل واقع اقليمي معقد تحكمه حسابات القوى المحلية والاقليمية والدولية.