استقالة قرداحي.. لبنان الرسمي يخرق سيادته!

استقال قرداحي، وقبِل ومن خلفه بسياسة كمِّ الأفواه للدولة اللبنانية، ما يعني أنَّ لبنان الرسمي اليوم لا يمكن أن يرفع رأسه وصوته وينطق بكلمة واحدة في وجه السعودية.

  • استقالة قرداحي.. لبنان الرسمي يخرق سيادته!
    استقالة قرداحي.. لبنان الرسمي يخرق سيادته!

ما إن تشكّلت الحكومة اللبنانية، من دون رضا "ولاة الأمر"، حتى سارعت وسائل إعلام إلى نشر مقابلة قديمة لوزير الإعلام جورج قرداحي، الذي كان ضيفاً في إحدى المحطات العربية (قبل توزيره)، يقول فيها عن الحرب اليمنية - السعودية إنَّها عبثية.

انتشر تصريح قرداحي في وسائل التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزة، وسارع أصحاب "السيادة بحسب السفارة" إلى مطالبة قرداحي بالاستقالة، حتى ذهب البعض إلى المطالبة باستقالة الحكومة كلّها، تحت ذريعة "إهانة المملكة العربية السعودية".

 بالعودة إلى الوراء، كانت هناك حادثة مماثلة لحادثة قرداحي، حدثت مع وزير الخارجية السابق شربل وهبة في مقابلة تلفزيونية، إذ نعت الضيف الآخر في الحلقة بأنّه قادم إلينا من "البدو"، بعد كيل الإساءات التي تعرض لها منه في الحلقة نفسها. بالطبع، من يمكنه نسيان خيمة الاعتذارات وقوافل الزحف إليها من "أحباب المملكة" للاعتذار من السفير السعودي والوقوف على خاطر ولي الأمر جرّاء تصريح وهبة!

بالعودة إلى الموضوع، لم يكن مصطلح "عبثية" الذي ورد في تصريح قرداحي هو الأول لبنانياً، فقد سبقه الكثير من التصريحات المماثلة لشخصيات سياسية، وعلى رأسها رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، إذ اعتمدا المصطلح عينه. وللمفارقة، هذا المصطلح أطلقته الأمم المتحدة كوصف دولي لتلك الحرب، فلماذا هذا الغضب السعودي الآن؟ لذا، يفتح التوقيت الباب للعديد من التساؤلات!

أولاً، هل استفزَّ تصريح القرداحي السعودية فعلاً أو جاء لممارسة سياسة كمّ أفواه على لبنان والدول المجاورة، إذ إنه لا يمكن لأحد أن يتفوَّه بكلمة تجاه المملكة، مهما كانت القضية!؟ هنا، فُتح باب السؤال للكثير من القضايا، وأبرزها: هل تريد المملكة أن تفرض منطقاً بالقوّة بعدم التعرّض لها، وخصوصاً أن مسار المنطقة كلّها ذاهب نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني. وبهذه الطريقة، من الممكن أنها تريد أن تضمن خشية وسائل الإعلام والحكومات والنشطاء منها وصمتهم تجاهها، في حال ذهبت إلى التطبيع كما ذهبت الإمارات قبلها؟!

هناك العديد من السيناريوهات التي رُسمت بعد التحركات السعودية وقطع العلاقات والتضامن الخليجي الّذي جاء كلّه ليحكم الخناق على لبنان الذي يعاني ما يعانيه اليوم من ظروف اقتصادية قاهرة. وحدها سلطنة عمان قالت إنها لن تكون جزءاً مما يحصل من مقاطعة للبنان.

اليوم، استقال قرداحي، وقبِل ومن خلفه بسياسة كمِّ الأفواه للدولة اللبنانية، ما يعني أنَّ لبنان الرسمي اليوم لا يمكن أن يرفع رأسه وصوته وينطق بكلمة واحدة في وجه السعودية وسياستها، فسرعان ما سيأتي السوط على ظهره.

والجدير بالذكر هو دور "أمّنا الحنون" التي أدت دور الوسيط لضمان الاعتذار، وذلك في صدد ضبط إيقاع موقعها اليوم مع السعودية لأجل مصالحها، فرأت في الملف اللبناني الشماعة التي تعلق عليها ملفاتها، كفاتحة خير لرسم مسار بينها وبين السعودية.

لا يجب أن يغيب عنا أنَّ المنظّمات الإعلامية المتغنية بالحقوق والحريات لم تصدر أيَّ استنكار لكمِّ الأفواه الذي يتعرَّض له وزير الإعلام اللبناني وغيره ممن لا تستسيغهم الذات الملكية، ولكنهم يقومون بالمقابل بتظاهرات وحملات لكفِّ يد "الاحتلال الإيراني" عن لبنان. وبالطبع، لا يعلم أحد منهم اسم السفير الإيراني المبعوث من البلد "المحتل"، والأهم أنهم، "مدّعو الشرف والسيادة"، عمدوا إلى تطويع حملات غبّ طلبهم، للضغط شعبياً على قرداحي ودفعه نحو الاستقالة تحت ذريعة "سلامة اللبناني في الخليج"، وكأنه لا يكفينا التذلّل لولاة الأمر سوى الترويج لكون اللبناني في الخليج ما هو إلا رهينة تُعتقل ويُطلق سراحها بحسب أهواء "الأمراء"، وهذا كلّه طبعاً جاء بوقاحة تحت شعار العنفوان اللبناني، وكأنَّ العنفوان اللبناني يكون بأن نذهب نحو الاستقالة! والأهم أنهم لا يجدون في كل هذا تناقضاً أو تزلفاً، بل يرونه عين الحرّيات والاستقلالية والسيادة. 

 الآن، ماذا بعد استقالة قرداحي؟ وما الذي تريده المملكة من لبنان؟ هل ستعيد علاقاتها التي قطعتها ودول الخليج مع لبنان؟ ما هو حجم الرضا السعودي عن لبنان بعد الاستقالة؟ كيف ستترجم هذه الخطوة اللبنانية في العمق العربي؟ ما هو موقع ميقاتي العربي؟ عشرات الأسئلة سنشهد أجوبتها في الأيام القادمة، إذ إن "الطابق لم يعد مستوراً". 

باختصار، السيادة اللبنانية تعني بمفهوم اليوم أنَّك تستطيع أن تنتقد كلَّ ما يُنتقد، وأن تضرب بعرض الحائط كل ما يُضرب، وأن تهين دبلوماسيين ودولاً شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، ولكن إياك أن تقترب من الذات الملكية و"ولاة الأمر". هنا، السيادة تنبطح وتعتذر وتستقيل.