الرفض الإسرائيلي للمساعي السورية للسلام...ماذا بعد؟
الوجود الأميركي يبدّد المخاوف الأمنية الإسرائيلية، ويمنحها فرصة لمراقبة كل ما يجري في سوريا، فالعلم سيكون أميركياً، والقاعدة لن تكون سوى صهيونية.
-
صراع النفوذ في سوريا!
مساع كبيرة تبذلها الإدارة الأميركية بهدف التوصل إلى اتفاق أمني بين سوريا و"إسرائيل"، يوقف التوغلات الإسرائيلية ويمنح الحكومة السورية فرصة لالتقاط أنفاسها، والاستعداد للدور المناط بها كعضو في التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب.
الإرهاب كلمة فضفاضة، يختصرها البعض بـ"داعش"، في حين يرى توم باراك أن الإرهاب يمتد ليشمل حزب الله والحشد الشعبي وربما الحوثيين، والأهم من ذلك، الفصائل الفلسطينية المعادية لـ"إسرائيل" والتي تتبنّى خيار المقاومة بوصفه الطريق الوحيد لاستعادة الحقوق في ظل التعنت الإسرائيلي.
حرب لبنان قادمة لا محالة، ومسعى "إسرائيل" لتفكيك سلاح حزب الله هو مسعى جدي، ويلقى قبولاً ودعماً شبه مطلق من قبل دول المنطقة، وبخاصة في ظل "انكفاء إيران" وعدم رغبتها في تقديم دعم مباشر لحلفائها في المنطقة، وهو ما بدا جلياً منذ "طوفان الأقصى".
هذا المسعى يلقى دعماً أميركياً، شريطة توفر من يموّل هذه الحرب ومن ينفذها، فأميركا باتت تتقن فن الحروب بالوكالة، وأنها غير مستعدة لخوض حرب مباشرة أياً كان السبب.
"إسرائيل" بدورها تبدو غير مرتاحة لزيارة الرئيس الشرع لأميركا، والأجواء الإيجابية التي رافقتها، وحديث ترامب وتعبيره عن الإعجاب بالشرع، وقناعته بضرورة منح سوريا "فرصة" لتعود "دولة طبيعية" في المنطقة.
الإغراءات التي يمكن للحكومة السورية أن تقدمها لترامب، بدءاً من السماح لشركات أميركية بالاستثمار في حقول النفط والغاز في شمال شرق سوريا وانتهاءً ببناء "برج ترامب" في دمشق، لن تستطيع جعله يقلل من انحيازه لـ"إسرائيل" والتزامه بالدفاع عنها.
الاعتداءات الإسرائيلية لم تتوقف، و"زيارة" نتنياهو إلى الجنوب السوري تعد استفزازاً لا سابق له، خصوصاً أن الجمعية العامة للأمم المتحدة صوّتت قبل أيام على أن الجولان عربي سوري بأغلبية أصوات 152 دولة، مقابل 8 دول منها "إسرائيل" والولايات المتحدة الأميركية، وست دول ميكروية لم يسمع كثيرون منا بها من قبل.
مقاربة أن " تقسيم سوريا سيجعل إسرائيل آمنة" مقاربة غير صحيحة، فوجود نظام قوي في سوريا يمنع قيام بعض التنظيمات من استهداف "إسرائيل"، وبخاصة إذا ما تم توقيع اتفاقية للسلام بين الجانبين.
"قيادة الشرق الأوسط الجديد"، شعار تسعى "إسرائيل" لتحقيقه، ويبدو أن العقبة الأساسية الحالية تتمثل في كيفية تقاسم النفوذ بينها وبين تركيا، وبخاصة في الأراضي السورية.
نتنياهو يسعى لرسم خرائط الأمن الإسرائيلي على حساب سوريا، فمنذ سقوط نظام الأسد عملت "إسرائيل" على جعل الجنوب السوري منطقة خالية من السلاح، لكن ذلك لن يصب في مصلحتها على المدى البعيد، فغياب السلطة في هذه المناطق قد يشجع "المقاومة الشعبية" على تنفيذ عمليات ضد "إسرائيل"، فالاستياء الشعبي من السلوك الإسرائيلي آخذ في التصاعد، وكثيرة هي الدول المستعدة لتقديم الدعم الخارجي.
صراع النفوذ في سوريا...
دأبت الحكومة السورية على تأكيد رغبتها في عدم الدخول في صراعات مع جيرانها، لا سيما "إسرائيل"، التي قابلت تلك الدعوة باعتداءات متكررة وصلت حد استهداف وزارة الدفاع السورية التي تعدّ رمزاً من رموز السيادة الوطنية باعتبارها مقراً للقيادة العسكرية.
حديث الرئيس الشرع عن "العدو المشترك" لكل من سوريا و"إسرائيل"، والصمت السوري عن إدانة التوغلات الإسرائيلية، والمضي في المفاوضات معها، رغم عدم توقف اعتداءاتها على الداخل السوري، كل ذلك لم يجعل "إسرائيل" تشعر بالارتياح لحكام سوريا الجدد.
درس السابع من أكتوبر حاضر في الذاكرة السياسية الإسرائيلية، وتكرار نموذج حماس في سوريا أمر تخشاه "إسرائيل"، وترى أنه لا يمكن الوثوق بالحكومات ذات المرجعية الدينية، بغض النظر عن طبيعة خطابها.
قدرة "إسرائيل" على العبث في الداخل السوري، وتحريك ملف الجنوب أو غيره أمر لا تستطيع "إسرائيل" مقاومة إغراءاته، على الرغم من أن ذلك قد يكون مفيداً لها على المدى القصير، لكنه لن يكون في مصلحتها على الصعيد الاستراتيجي.
لا يمكن التعويل على الولايات المتحدة لكبح جماح نتنياهو وإجباره على الانسحاب من الأراضي التي احتلتها "إسرائيل" بعد 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، ولا بد من اتخاذ خطوات عملية من جانب الحكومة السورية.
التعهدات الإسرائيلية، لو حدثت، لا يمكن الوثوق بها أو التعويل عليها، فالسلام بحاجة إلى قوة تحميه، بخاصة أن "إسرائيل" تتبنى فكرة "السلام من خلال القوة"، وتحظى بدعم أميركي مطلق.
واقعية القيادة السورية في تعاطيها مع "إسرائيل" يجب أن لا تفسر عجزاً، فسوريا ضعيفة ولكنها ليست عاجزة، وهي قادرة على أن تكون جبهة للجهاد العالمي ضد "إسرائيل" إذا ما انسدت الخيارات أمامها.
غياب محور المقاومة زاد من عنجهية "إسرائيل" وجعلها تتصرف بحرية في اعتداءاتها المتكررة على إيران والدول العربية، وهو ما قد يدفع هذه البلدان إلى شيء من "تحالف الضرورة"، إذا ما استمرت "إسرائيل" في بغيها.
ازدياد النفوذ التركي في سوريا على حساب نظيره الإيراني قد يرتب على أنقرة تبعات أهمها ضرورة التدخل للجم الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، خصوصاً أن "إسرائيل" تعلن رفضها المطلق لإقامة قواعد عسكرية تركية في الجنوب السوري.
الإنزال الإسرائيلي في الكسوة بالقرب من دمشق، كان الهدف منه تفكيك معدات عسكرية تركية تم نقلها إلى المنطقة، وتخشى "إسرائيل" أن تستخدمها أنقرة للتجسس عليها.
"إسرائيل" لا تخشى الأنظمة العربية بقدر ما تخشى الشعوب، لذا تحرص على أن لا تصل هذه الشعوب إلى حد الفقر فتثور، كما تعمل على منعها من تحقيق الرفاه كي لا تطالب بحقوقها.
"السلام من خلال القوة" هو ما تريده "إسرائيل"، وبالتالي لا مجال للحديث عن انسحاب "إسرائيل" من الأراضي التي احتلتها بعد 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، ولا سيما مرتفعات جبل الشيخ، أما الجولان فقد بات شيئاً من الماضي، وتسعى "إسرائيل" لانتزاع تنازل رسمي سوري عنه.
الحديث عن قواعد عسكرية أميركية في سوريا...
بداية، لا بد من الإشارة إلى أن الحضور الأميركي في سوريا ليس جديداً، إذ كان هناك نحو 20 نقطة توجد فيها القوات الأميركية، تم اختصارها إلى تسع نقاط، ويجري العمل على إنشاء قواعد عسكرية أميركية ثابتة في سوريا.
وجود هذه القواعد يعطي شرعية للحضور الأميركي في سوريا كونه يأتي بالاتفاق مع حكومة دمشق (رغم أن ذلك ليس من صلاحياتها كحكومة انتقالية)، وبخاصة في ظل غياب مجلس الشعب حتى الآن.
المقاربة القانونية قد لا تكون مفيدة، إذ إن أميركا تظهر دوماً عدم اكتراثها بالقانون الدولي، كما أن وجودها في سوريا كان من دون موافقة النظام آنذاك.
ست دول لها نفوذ في سوريا، هي: أميركا وروسيا وتركيا و"إسرائيل" وقطر والسعودية. فجنوب دمشق يعدّ حالياً منطقة نفوذ إسرائيلي، وشمال دمشق منطقة نفوذ تركي، أما شمال شرق سوريا فهو تحت سيطرة "قسد".
فرق عسكرية وفنية أميركية توجهت إلى كل من مطار المزة ومطار السين ومطار الضمير ومطار تدمر لاختيار المكان المناسب لإقامة قاعدة فيها، ويبدو أن الخيار وقع على مطار المزة، باعتباره قريباً من العاصمة، ويقع على الطريق بين دمشق والحدود مع "إسرائيل".
الوجود الأميركي يبدّد المخاوف الأمنية الإسرائيلية، ويمنحها فرصة لمراقبة كل ما يجري في سوريا، فالعلم سيكون أميركياً، والقاعدة لن تكون سوى صهيونية.
هذا الحضور لن يحمي سوريا بكل تأكيد، فما حدث من اعتداء إسرائيلي على قطر يؤكد أن الولايات المتحدة ليس لها سوى حلف واحد في المنطقة هو "إسرائيل"، أما البقية فليسوا سوى أتباع يقدمون لها فروض الطاعة.
كل المعطيات تشير إلى أن المشهد الإقليمي لم يتبلور بعد، ونحن نعيش إرهاصات "الشرق الأوسط الجديد"، الذي تتصارع إرادات عدة قوى فيه لرسم ملامحه وفقاً لرغبات اللاعبين.
شكل هذا "الشرق الأوسط الجديد" وحدوده لن ترسم سوى بالنار، وبالتالي الحديث عن استقرار المنطقة وتنميتها أمر مستبعد، على المستوى التكتيكي على الأقل، وما يزيد من تعقيدات المشهد أن الكثير من مكونات الشعب السوري يعيشون عصر "ما قبل الدولة"، وهو ما يضاعف من التحديات أمام الحكومة السورية.
السعي لجعل الحدود الإدارية تتطابق مع الحدود الإثنية والطائفية والمذهبية خطر كبير يهدد المنطقة، ويستوجب التنبيه إلى خطورة ذلك من قبل وسائل الإعلام والنخب الثقافية، وما يحدث في مدينة حمص ينذر بذلك.
المرحلة المقبلة تحمل لسوريا تحديات متعددة الأبعاد، بدءاً من ضرورة تمتين جبهتنا الداخلية بعد سنوات الانقسام والاستقطاب فيها، وكيفية التعامل مع الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على الأراضي السورية، وإعادة بناء الاقتصاد وإحياء القطاعات الإنتاجية بطريقة مدروسة. ويبقى الاقتصاد المؤشر الأكثر حساسية، حيث سيحدد مدى قدرة الدولة على تحويل المكاسب الأمنية والسياسية إلى تنمية مستدامة.