العراق وتركيا… من خطوط الأنابيب إلى خطوط النفوذ

العلاقة بين العراق وتركيا اليوم ليست علاقة دولة بجارتها، بل علاقة دولتين تعيدان رسم خريطتهما السياسية والأمنية.

0:00
  •  تركيا  تتحرك في منطقة حساسة سياسياً.
    تركيا  تتحرك في منطقة حساسة سياسياً.

لم يكن العراق وتركيا يومًا بلدين أحدهما عابر للآخر في الجغرافيا. العلاقة بينهما كانت دائمًا علاقة جغرافيا وسياسة ومصالح، تمتد من أعماق التاريخ حتى اللحظة الراهنة، حيث تتقدم أنقرة بخطى ثابتة نحو توسيع حضورها شمال العراق، فيما تحاول بغداد إعادة ترتيب أولوياتها في زمن ما بعد الانتخابات.

تركيا.. حضور جديد بلغة قديمة

خلال الأشهر الماضية، بدا واضحًا أنّ تركيا انتقلت أكثر إلى مرحلة الفعل المباشر:

-تفاهمات أمنية

-اتفاقات اقتصادية

-وتوسع في عملياتها ضد حزب العمال الكردستاني (PKK)

وهذه السياسات تحظى اليوم بدعم برلماني تركي غير مسبوق، ما يعكس رغبة أنقرة في ترسيخ معادلة نفوذ طويلة الأمد داخل الشمال العراقي.

أنقرة في الشمال… أمن بواجهة سياسية

على السطح، تبدو تركيا وكأنها تتحرك فقط لمواجهة PKK ، لكنّ القراءة الأعمق قد  تكشف:

 -سعيًا لتثبيت حضور استراتيجي على حدودها الجنوبية.

- ترتيبًا لعلاقة جديدة مع أربيل تعزز بها نفوذها الاقتصادي (خط الأنابيب – التبادل التجاري).

-  ورقة ضغط على بغداد في ملفات المياه والاقتصاد.

بمعنى آخر…

تركيا تُدخل العراق في "هندسة نفوذ" جديدة، تجمع بين الأمن والاقتصاد والسياسة.

بغداد بين الحسابات… والخيارات الصعبة

الحكومة العراقية، وسط مشاورات تأليف الحكومة الجديدة تواجه معادلة معقدة:

-لا تريد خسارة تركيا، الشريك التجاري الأكبر.

-ولا تريد تقديم تنازلات أمنية على حساب سيادتها.

-ولا تستطيع تجاهل تأثير أنقرة على إقليم كردستان.

التحدي يكمن في أن تركيا  تتحرك في منطقة حساسة سياسياً: سنجار، دهوك، زاخو، والمثلث الأمني الحدودي… وهذه مناطق ترتبط مباشرة بالتوازنات الكردية – العراقية.

إقليم كردستان… بين أنقرة وبغداد

الإقليم يرى في تركيا شريكًا مهمًا، اقتصاديًا وأمنيًا.

لكن حجم العمليات التركية الأخيرة يطرح أسئلة داخل الإقليم نفسه:

-أين يقف الحزب الديمقراطي الكردستاني؟

-هل سيقبل الاتحاد الوطني بتوسّع تركي يربك نفوذه؟

-وهل تصمد وحدة الإقليم أمام ضغط الأمن والسياسة؟

من النفط إلى النفوذ:

خط أنابيب كركوك – جيهان كان دائمًا رمزًا للعلاقة بين بغداد وأربيل وأنقرة.

لكن اليوم، يبدو أن تركيا تريد ما هو أبعد من أنبوب:

إنشاء بنية نفوذ كاملة، من المعابر إلى المناطق العسكرية إلى المشاريع الاقتصادية الكبرى.

وهذا يجعل العراق أمام سؤال كبير:

هل سيستطيع وضع حدود واضحة للدور التركي، أم أن توازنات ما بعد الانتخابات ستمنح أنقرة مساحة أكبر؟

ملف المياه .. الورقة الأخطر 

في خلفية كل الحراك التركي، يقف ملف المياه كأقوى أداة ضغط تمتلكها أنقرة على بغداد.

تركيا، عبر مشروع GAP وسلسلة السدود على نهري دجلة والفرات، أصبحت تتحكم عمليًا بمصير ملايين العراقيين الذين يعتمدون على تدفق المياه للزراعة والشرب والصناعة.

أنقرة تدرك أن المياه ليست مجرد ملف بيئي، بل ورقة سياسية واقتصادية يمكن توظيفها في كل تفاوض:

-تخفيض الإطلاقات المائية في فترات التوتر.

-زيادتها مقابل اتفاقات سياسية أو اقتصادية.

-ربط ملف المياه بالحدود والأمن والطاقة.

بالنسبة للعراق، فإن استمرار انخفاض الخزين المائي يهدد الأمن الغذائي، ويضغط على الحكومة المقبلة، ويجعل بغداد مضطرة للتعامل مع تركيا بميزان أكثر حساسية.

وهكذا يتحول الماء إلى عنصر جديد في معادلة النفوذ التركي، لا يقل أهمية عن الأنابيب أو الحدود أو العمليات العسكرية..

في الخلاصة العلاقة بين العراق وتركيا اليوم ليست علاقة دولة بجارتها، بل علاقة دولتين تعيدان رسم خريطتهما السياسية والأمنية. فهنا تتقاطع مصالح  بغداد، أنقرة، وأربيل، وهنا يُكتب فصل جديد من السياسة الإقليمية.