الوسطاء الغائبون: غياب الفاعلية والضمير في حل النزاعات العالمية
في كل زاوية من هذا العالم، من شرق أوروبا إلى كشمير، ومن قلب أفريقيا إلى ضفاف شرق آسيا، يطلّ سؤال مؤلم: أين ذهب الوسطاء؟ أين أولئك الذين يُمسكون بخيوط الأمل في لحظة يختنق فيها العالم؟
-
لماذا نفشل في خلق وسطاء؟
شهد العالم تحوّلات جذرية منذ فترة الانتعاش السياسي التي ميّزت منتصف القرن العشرين، حين كانت دول الجنوب تتخلص تباعاً من نير الاستعمار، ما أتاح نشوء أقطاب إقليمية متعددة، وأوجد توازناً نسبياً في النظام الدولي.
لم تكن هناك قوة واحدة تحتكر القرار أو ترسم مصير البشرية، بل سادت حالة من التنافس الحاد بين المعسكر الغربي بقيادة واشنطن والشرقي تحت مظلة موسكو. وعلى الصعيد الفكري، كان التنوع الأيديولوجي والانفتاح الثقافي يفتحان الباب أمام نقاشات حيوية، غالباً ما كانت تنتهي إلى أفكار تدفع العالم خطوات إلى الأمام.
من رحم تلك المرحلة الزاخرة، بزغت شخصيات قيادية ذات ثقل سياسي حقيقي، على الرغم من بساطة هيئتها الظاهرية. قادةٌ امتلكوا الكاريزما والحكمة التي تؤهلهم للتدخل متى استشعروا الخطر، وقيادة شعوبهم بحنكة واتزان. كانت الزعامة وقتها تُبنى على أساس من العقلانية والاتزان النفسي، على عكس ما نراه اليوم، حيث تصعد شخصيات مثل دونالد ترامب إلى قمة السلطة في أكبر دولة في العالم، وسط كم هائل من الشكوك والتقارير التي لا تطعن فقط في قدراته السياسية أو رؤيته الاقتصادية، بل تتجاوزها إلى صحته العقلية.
في خضم هذه التغيرات، ظهرت حملات إعلامية تسعى لتشويه مفهوم القيادة بشكل عام، إذ جرى تسفيه مفاهيم مثل "الهيبة السياسية" و"قوة الشخصية"، وكلها أفكار مرّت إلى الجماهير خلف لافتات مثل "نشر الديمقراطية" و"نقد تقديس الأفراد".
لكن خلف هذه العناوين الملساء، اختبأت مشاريع تفريغ السلطة من مضمونها، لمصلحة وكلاء تقنيين منزوعي التأثير. هكذا تمخضت الحقبة الجديدة عن جيل من الزعماء ذوي الطابع التكنوقراطي، الذين—حتى وإن تحلّوا بالنزاهة—يفتقرون إلى القدرة على صوغ توجهات استراتيجية أو إدارة الأزمات الكبرى بمهارة. وفي لحظات الطوارئ، يتضح عجزهم عن لعب دور الوسيط، أو حتى فرض الحد الأدنى من الانضباط.
دماءٌ كثيرة كان يمكن حقنها
هناك صراعات يصعب تقبّل حجم الخسائر التي تنتج عنها، لكنها في الوقت نفسه مفهومة من حيث جذورها ودوافعها.
من بينها النزاع بين الفلسطينيين الذين يناضلون من أجل حقوقهم التاريخية في أرضهم، وبين الإسرائيليين الذين استوطنوا الأرض عبر مشروع استعماري توسّعي. كما يمكن النظر إلى الحرب الغربية ضد روسيا باعتبارها محاولة لعرقلة صعودها كقوة دولية، من خلال الضغط السياسي والاقتصادي، وصولًا إلى الصراع العسكري المباشر في شرق أوكرانيا.
هذا النوع من الصراعات يبدو غير قابل للحل عبر الوساطات التقليدية، نظرًا لكونه صراع وجود وهويات متعارضة، تنتهي عادة بانتصار طرف وهزيمة الآخر. ومع ذلك، فإن وجود إرادة دولية وإقليمية جادّة كان من الممكن أن يخفف من حدة هذه النزاعات، أو على الأقل أن يحدّ من آثارها المدمّرة، عبر اتخاذ خطوات تضمن حماية المدنيين ووقف التصعيد في الميدان.
على صعيد آخر، هناك نوع من الحروب كان من الممكن تجنبه، أو على الأقل تقليل تداعياته السلبية، إذا كانت جهود الوساطة قد اتخذت شكلًا أكثر جدية.
مثال على ذلك هو الحرب في السودان التي اندلعت في إبريل/نيسان 2023، حيث رغم تدخل أطراف إقليميين لإشعال الموقف المحلي لتحقيق مصالح سياسية ومالية، يبقى الصراع الأساسي في جوهره تنافسًا على السلطة بين طرفين محليين، لا يختلفان كثيرًا من حيث الأيديولوجيا بقدر ما يتنازعان على توزيع السلطة وموارد البلاد. كان من الممكن لوسطاء جادين أن يؤدوا دورًا في تهدئة الموقف ووقف تصاعده، إلا أن ما حدث كان عكس ذلك، حتى أن بعض الوساطات جرى وصفه بأنه "صوت في العدم"، كما ورد في تصريحات أحد دبلوماسيي الأمم المتحدة لموقع "ذا جارديان".
أما المثال الآخر، فيتمثل في النزاع المستمر بين الهند وباكستان، الذي يعود إلى تقسيم شبه القارة الهندية في عام 1947. الصراع على كشمير يستمر في التصاعد والنزول من دون حل جذري، رغم أن كلا البلدين يعانيان من مشكلات اقتصادية قد تجعلهما بعيدين عن خيار الحرب التي لن تحسم النزاع.
في حربهما الأخيرة، اشتعل الموقف بعد تفجير إرهابي استهدف قافلة سياحية هندية في منطقة باهالجام، ما أسفر عن قتلى وجرحى. ردت الحكومة الهندية بالقيام بعمليات عسكرية جوية ضد مواقع التنظيمات الإرهابية في باكستان، متهمة إياها بدعم تلك الجماعات، بينما نفت إسلام آباد هذه التهم. في تلك اللحظة، كان من المهم أن يتدخل الوسطاء، ولكن غابت جهود الوساطة الفعالة.
من بين هذه الجهود، لا يمكن تجاهل محاولات طهران لمنع تصعيد الوضع بين البلدين. وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي دعا قادة الهند وباكستان إلى ضبط النفس، وزار كلا البلدين في غضون أسبوع واحد، مؤكداً أهمية الحفاظ على الاستقرار في منطقة جنوب آسيا. ولكن في المقابل، غابت باقي الدول عن المشهد، ولم تبذل أي جهود تذكر لتهدئة الأوضاع أو دفع الطرفين نحو الحل.
لماذا نفشل في خلق وسطاء؟
1. هيمنة المصالح الاقتصادية والجيوسياسية على القيم الإنسانية.
2. شلل المؤسسات الدولية، التي فقدت قدرتها على فرض الحلول أو حتى احترام قراراتها.
3. انهيار الثقة الدولية، حيث بات الوسطاء أنفسهم موضع شك، إما لانحيازهم أو لتناقض أدوارهم.
4. تحوّل العمل الدبلوماسي إلى استعراض إعلامي، يفقد الجوهر ويكسب اللقطة.
5. غياب الزعامة ذات الهيبة، فليس كل طرف ثالث يصلح أن يكون وسيطًا. الوسيط الفعّال يجب أن يمتلك ثلاثية التأثير: النفوذ، المصداقية، والحياد العملي.
وساطة ناجحة وسط العتمة: سلطنة عُمان نموذجاً
تُعدُّ سلطنة عُمان من أنجح النماذج الإقليمية في الوساطة الهادئة والفعّالة. فهي تمارس دبلوماسية فريدة تقوم على الحياد المبدئي، والسرية، والاحترام المتبادل، فلا تنخرط في التكتلات الصاخبة، ولا تفرض مواقفها، لكنها تُصغي وتُطمئن، هنا سر قوتها.
أما أبرز أدوارها كوسيط:
1. الملف النووي الإيراني:
كانت عُمان قناة خلفية رئيسية بين الولايات المتحدة وإيران، خاصة بين 2011–2013، ما مهّد الطريق لاتفاق 2015 النووي. حتى وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري قال إن "الوساطة العُمانية كانت لا غنى عنها"، واليوم كذلك هي تحاول أداء دور مشابه رغم المعوّقات كافة التي تنتج عن تعنّت الإدارة الأميركية، واستمرارها في فرض العقوبات الجائرة على طهران.
2. الأزمة اليمنية:
استضافت عُمان مفاوضات مباشرة وغير مباشرة بين أنصار الله والأمم المتحدة، وبينهم وبين الرياض، وأخيراً بين صنعاء وبين واشنطن، وفي كل مرة كانت تؤدي دوراً أساسياً في إطلاق أسرى، وإيصال المساعدات، ومؤخراً، أدّت المفاوضات إلى إعلان ترامب وقف الضربات الجوية على اليمن.
أما نجاح مجهود مسقط، فيرجع إلى أنها تُجسّد نموذج الوسيط الغائب، القوي بصمته، لا بضجيجه، فهي تحترم الخصوصيات الثقافية والسياسية لغيرها، ولا تستخدم الإعلام لأغراض استعراض الوساطة، كما أنها تملك علاقات متوازنة مع العديد من الأطراف من دون أن تُثير استفزاز أحد، وإضافة إلى ذلك لديها النيّة الصادقة والرغبة الجادة في الوصول إلى حلّ، ودائماً ما يكون عملها الدبلوماسي، مصحوباً بالإيمان بإمكانية تقريب وجهات النظر.
نحو ولادة وسطاء جدد
في كل زاوية من هذا العالم، من شرق أوروبا إلى كشمير، ومن قلب أفريقيا إلى ضفاف شرق آسيا، يطلّ سؤال مؤلم: أين ذهب الوسطاء؟ أين أولئك الذين يُمسكون بخيوط الأمل في لحظة يختنق فيها العالم بالدخان والدموع؟.
الواقع أن كثيراً من الحروب تستعر، لا لأن أحدًا يريدها فعلاً، بل لأن لا أحد يملك الشجاعة أو الحكمة الكافية لإطفائها.
من ربع قرن مضى، قال السياسي الفرنسي شارل تاليران: "الوساطة هي فنّ إقناع الآخرين بأن التنازل انتصار"، لكن هذا الفن بات منقرضاً، أو جرى تغييبه بوعي، لتحل محله وجوه دبلوماسية شاحبة، تنطق بلغة باردة لا يمكنها أن تُقنع مقاتلاً يظن أن البندقية خلاصه الوحيد.
إن إعادة الاعتبار إلى الوساطة، تتطلب نهضة فكرية في مفهوم القيادة والدبلوماسية، إذ لا مفر من إعادة الاعتراف بأن "الهيبة" و"الضمير" ليسا من بقايا الماضي، بل من شروط البقاء في الحاضر. فالعالم لا يحتاج إلى مزيد من قادة الحسابات الرسمية، بل إلى حكماء يعرفون متى يُصغون، ومتى يتكلمون، وكيف يُطفئون النار من دون أن يتوهجوا فيها.
لقد أصبح العالم بحاجة إلى فهم جديد للقوة، قوة تُقاس بقدرتها على الحفاظ على الأرواح وحماية البشر من ويلات النزاعات. الوسطاء الأقوياء ليسوا ترفاً دبلوماسياً، بل هم ضرورة وجودية في هذا الزمن. فإما أن نستعيدهم… أو نعتاد دفن الضحايا بلا سؤال، ولا إجابة.