خطة ترامب مؤامرة تلموديّة «أبراهاميّة»
مجرّد الإعلان عن خطّة ترامب لا يُغيِّر شيئًا من واقع الميدان؛ إذ إنّ الحلف الصهيو-أميركي قد ألقى بكلّ ثقله العسكريّ وغيرِ العسكريّ في حرب الإبادة على مدى عامين.
-
تحاول واشنطن وضع الفصائل الفلسطينية في مواجهة الدول العربيّة والإسلاميّة.
ما أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب مساء يوم الإثنين في مؤتمره الصحافي مع رئيس وزراء الكيان الغاصب لم يكن خطةً لوقف الحرب على غزّة كما زعم، بل مشروعًا لإنهاء القضية الفلسطينية برمّتها؛ إذ تجاوز ما ورد في اتفاق أوسلو سيّئ الذكر. ولم تكن السلطة الفلسطينية حاضرةً في ما طرحه ترامب، رغم ما بلغته من حضيضٍ وإذعانٍ للاحتلال.
إذ أكّد ترامب دعمَه غير المشروط للاحتلال، وأعاد تأكيد اعترافه بالقدس عاصمةً للكيان، ولم يأتِ على ذكر اعتداءات المستوطنين على المسجد الأقصى أو الدعوات المتكرّرة إلى هدمه. كما لم يقدّم أيّ التزامٍ واضح بإقامة دولةٍ فلسطينية، ولم يتطرّق البتّة إلى الحديث الإسرائيلي المتواصل عن ضمّ أراضي الضفّة المحتلّة.
وقد أعلن ترامب ومعه نتنياهو عن «وثيقةٍ» من عشرين بندًا بوصفها «خطة سلام» لتحقيق وقفٍ فوريّ لإطلاق النار إذا وافق الأطراف كلّهم؛ وقد أعلن نتنياهو تأييده ما طُرح، فيما لم توافق حماس بعد. وتتضمّن البنودُ تسليمَ أسرى الاحتلال خلال 72 ساعة من تاريخ إعلان وقف إطلاق النار، وتفكيكَ القدرات العسكريّة لحماس وإنهاء دورها السياسي، على أن تُقابلَ هذه الخطواتُ بوقفٍ للعمليات الإسرائيليّة وانسحابٍ مُتدرّج، مع ترتيب تبادلِ أسرى يشمل إطلاق قرابة ألفَي أسيرٍ من غزّة لدى الاحتلال. كذلك تحدّث ترامب عن «مجلسِ سلام» تُشرف عليه الولايات المتحدة ويضمّ شخصياتٍ دوليّة—ذُكر من بينها توني بلير—إلى جانب ترتيباتِ إدارةٍ انتقالية وقوّةِ استقرارٍ دوليّة للإشراف المرحليّ على القطاع حسب وصف الوثيقة. كما لوّح بأنّ رفض حماس سيقابَل بـ«الدعم الكامل» لجيش الاحتلال لمواصلة عمليّاته «حتى النهاية».
ما سمعناه، في جوهره، اتفاقٌ صهيو-أميركيّ يستكمل مؤامرة «الشرق الأوسط الجديد»؛ يبدأ بالسعي إلى القضاء على المقاومة الفلسطينية بوصفها العقبة الأولى، تمهيدًا لإدخال العالم الإسلاميّ برمّته في العصر الصهيوني الهادف إلى تقويض معتقدات الأمّة الإسلاميّة والعربيّة، بما فيها العقيدة المسيحيّة، لتغدو شعوب المنطقة عبيدًا في منظومة استرقاقٍ توراتيّة سمّوها «الديانة الأبراهاميّة». وقد أكّد كلٌّ من ترامب ونتنياهو، في المؤتمر الصحافي، اللفظ العبري لاسمِ إبراهيم عليه السلام (أبراهام) بما يحمله اللفظ من رمزيّةٍ تلموديّة، كما كرّرا لهجةَ الإملاءات على الفلسطينيين مقرونةً بتهديدٍ صريحٍ باستمرار الحرب في حال عدم الامتثال. ولكن كيف لهذه المؤامرة أن تنجح وجيشُ الاحتلال لا يزال عاجزًا عن حسم المعركة ضدّ قطاع غزّة المحاصَر، بعد سنتين من حرب الإبادة التي يخوضها ضدّ الشعب الفلسطيني هناك؟
تحاول الولايات المتحدة، عبر خطّة ترامب الأخيرة، وضع الفصائل الفلسطينية والشعب الفلسطيني في مواجهة الدول العربيّة والإسلاميّة بدلًا من أن تكون المواجهة مع جيش الاحتلال. فالحديث عن «مجلس سلام» تقوده واشنطن، وعن ترتيباتِ «إدارةٍ انتقالية وقوّةِ استقرارٍ» تُنشر فورًا في غزّة، وعن دورٍ مُلزِمٍ لـ«الشركاء الإقليميّين» لضمان «امتثال» فصائل غزّة و«ألّا تعود غزّة مصدر تهديد»—كلّها خطواتٌ تدفع نحو تدويل السيطرة الأمنيّة ووضعِ النظام العربيّ الرسميّ في مواجهة الفلسطينيّين وفصائلهم على اختلافها.
وترمي هذه الخطوات إلى إراحة جيش الاحتلال الذي بدت عليه علامات الإرهاق في المعركة، وإخراج الاحتلال من مأزقه المتمثّل بعجزه، حتى اللحظة، عن حسم الحرب ضدّ قطاع غزّة المحاصَر أو ترجمة مسار العامين الماضيين إلى مكسبٍ سياسيٍّ ملموس على الأرض. وهي تأتي أيضًا التفافًا على العزلة المتزايدة التي بات الكيان يعانيها دوليًا، والتي ستتبدّى نتائجها في المدى المتوسّط، بعد المشهد الذي شهدته جلسة الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، وسيل الاعترافات الأخيرة بالدولة الفلسطينيّة.
استراتيجيًّا، لا تقتصر خطورةُ ما طرحه ترامب على مستقبل فصائل المقاومة الفلسطينيّة وحسب، بل تتخطّاه إلى مستقبل السلطة في رام الله، ودول الطوق التي باتت—خلا لبنان—في حالة مهادنةٍ مع الصهيو-أميركي، وذلك عقب إسقاط سوريا؛ ناهيك عن خطورته على سائر قوى المقاومة في المنطقة، ولا سيما حزبُ الله. إذ إنّ إعادةَ تدوير «الوصاية» على غزّة ضمن «مجلس سلام» وقوّةٍ دوليّةٍ انتقالية، مقرونةً بتجريد المقاومة الفلسطينية من أدواتها، تَحمل تداعياتٍ مباشرةً على بيئة الردع في المشرق العربي كلّه.
وما تأكيدُ ترامب، في مؤتمره الصحافي، الاعترافَ بضمّ الكيان لمرتفعات الجولان المحتلّة سوى دليل على طريقة تعاطي الولايات المتحدة مع سلامة أراضي دول الطوق ضمن رؤية الاحتلال التوسّعيّة، ومفهوم «الشرق الأوسط الجديد»؛ وهي رؤيةٌ لا يمكن، بحسب تصوّر أصحابها، إنفاذُها إلّا باستكمال القضاء على قوى التحرّر العربيّ والإسلاميّ في المنطقة، عقبَ الانتهاء من «المعضلة الفلسطينيّة» حسب آمالهم.
إنّ مجرّد الإعلان عن خطّة ترامب لا يُغيِّر شيئًا من واقع الميدان؛ إذ إنّ الحلف الصهيو-أميركي قد ألقى بكلّ ثقله العسكريّ وغيرِ العسكريّ في حرب الإبادة على مدى عامين.
غير أنّ الحساسيّة تكمن في ما سيؤول إليه الموقفُ العربيّ والإسلاميّ الفعليّ من مسعى واشنطن لشطب القضيّة الفلسطينيّة، وتحييد الفصائل الفلسطينيّة—بمن فيهم حركةُ فتح والسلطةُ الفلسطينيّة—تمهيدًا لإدخال العالم العربيّ والإسلاميّ في عصرِ الرؤية التلموديّة «الأبراهاميّة»، ولعلّ الأيّام القليلة المقبلة تكشف حقيقة موقفِ النظامِ العربيّ الرسميّ ممّا أعلنه ترامب بشأنِ المُضيّ في خطّته المزعومة.