سوريا بين الوحدة والتقسيم

الحديث عن سوريا موحدة ما زال في إطار الأمنيات، خاصة وأن الأطراف التي وقّعت على اتفاقات تنصّلت منها، سواء من خلال الإعلان الدستوري، أو برفضه جملة وتفصيلاً، كما فعل الدروز ومجلس سوريا الديمقراطي "مسد".

0:00
  • السيناريو الأكثر احتمالاً هو تحويل سوريا إلى مناطق نفوذ لقوى إقليمية ودولية متنافسة.
    السيناريو الأكثر احتمالاً هو تحويل سوريا إلى مناطق نفوذ لقوى إقليمية ودولية متنافسة.

أكثر ما يثير شهية المحللين السياسيين للتنبؤ هذه الأيام هو الوضع في سوريا "الجديدة". المعارضون لحكومة الأمر الواقع في سوريا يكادون يجمعون على أن سوريا ذاهبة نحو التقسيم، في حين يصمم داعمو النظام الجديد بمن فيهم رئيسه أن ما يحدث يقع ضمن توقعات المرحلة، ويعدون بسوريا جديدة وموحدة.

بين التفاؤل والتشاؤم تتسارع التطورات المقلقة والمحيّرة في آن. الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء من الجنوب السوري، وما يحدث في مدن وقرى الساحل السوري، يرجح سيناريو الانقسام، في حين يعيدنا الاتفاق مع "قسد" والدروز إلى مربع الوحدة، فأين تكمن الحقيقة؟

في جنوب سوريا، نحن أمام ثلاث مشكلات معقدة، الأولى هي الاحتلال الإسرائيلي لأراض سورية تابعة لثلاث محافظات هي السويداء ودرعا والقنيطرة. يدّعي الكيان أن جزءاً من مهمة قواته هو حماية الأقلية الدرزية، ويظهر الأمر وكأنه يحدث بموافقة الطائفة الدرزية. وفي هذا السياق، جاءت زيارة بعض الأفراد الدروز إلى الداخل الفلسطيني برعاية "جيش" الكيان. هذا السياق المتخيل يُغفل مجموعة من الحقائق، أولها أن الاحتلال الإسرائيلي حدث منذ مساء اليوم التالي لانهيار النظام السابق، وترافق بواحدة من أكبر عمليات القصف الجوي لتدمير أهداف عسكرية في تاريخ المنطقة، كل هذا حدث بعيداً من أي سياق يرتبط بنتائج وصول الشرع إلى دمشق، سواء على الدروز أو غيرهم. كما تغيب عن هذا السياق العلاقة المتوترة بين سكان السويداء ودرعا على خلفية موقف سكان المحافظتين من الحرب على سوريا طوال السنوات الماضية. يبرز هنا دور الأردن كأحد المشرفين ورعاة الوضع في درعا طوال الحرب. الأردن طرف مهم في أي سيناريو يتعلق بجنوب سوريا، وخصوصاً عند الحديث عن تهجير بعض سكان محافظة درعا إلى الأردن.

يبقى الخلل الأهم، وهو الافتراض بأن العرب الدروز يقبلون بالسيطرة الإسرائيلية، وهذا ما يناقض تاريخ الدروز عامة، وفي منطقة جنوب سوريا بشكل خاص، فموقف الدروز من الاستعمار سواء العثماني أو الفرنسي كان واضحاً، وشكّل علامة فارقة في التاريخ النضالي للشعب السوري، ولا يؤخذ على الدروز موقف بعض الأفراد المهزومين، فهؤلاء موجودون في كل مجتمع.

في الشمال الشرقي، تبين أن الاتفاق مع "قسد" لا يتجاوز في أحسن الأحوال إعلان النوايا، إذ غابت عنه أي خطوات إجرائية على أي صعيد. حسب ممثلة "قسد" في القاهرة، فإن الوقت ما زال مبكراً على الحديث عن إجراءات على الأرض، وأن المهم الآن إنجاز تشكيل لجان الحوار في القضايا المختلفة قبل نهاية العام. الحديث إذاً عن عشرة أشهر على الأقل، فما الذي دفع الجنرال مظلوم عبدي إلى الذهاب إلى دمشق بسرعة، وبشكل غير متوقع، لتوقيع اتفاق مع الشرع؟

السبب التكتيكي السريع، كان مجلس الأمن حول جرائم الساحل السوري، فقد مارست الولايات المتحدة نفوذها على الجنرال عبدي، وجزء من الدروز لتوقيع اتفاقات سريعة مع حكام دمشق لتجنب اتخاذ قرار قاس بحق حكومة الشرع، ما يجبر الولايات المتحدة على استخدام حق النقض الفيتو، ويظهرها بمظهر الداعم لجرائم الإبادة الطائفية والتطهير الديني.

السبب الحقيقي، هو تحييد دمشق عن التعامل مع قضية "قسد" باعتبارها خاضعة لتعقيدات العلاقات الأميركية – التركية، ويحتاج حلها إلى تسوية دولية تشمل ملفات كثيرة، ولا دور لسوريا بشكلها الجديد في هذه التسوية. تركيا ليست راضية عن أي حل يحفظ للكرد حضوراً عسكرياً من أي نوع، لذلك عادت إلى تفعيل العمليات العسكرية ضد "قسد" في محيط سد تشرين ومناطق عين العرب. اتفاق الشرع – عبدي ولد ميتاً، ولن يكون له أثر يذكر على سير الأحداث في شمال شرق سوريا.

الدور التركي ليس محصوراً في الشمال الشرقي، بل يمتد إلى حلب وإدلب والشمال الغربي. الحضور التركي في هذه المناطق تجاوز الاحتلال العسكري، وبدأ يأخذ صفة مدنية من خلال السيطرة على المؤسسات المدنية، والربط الكهربائي والمائي والاقتصادي، وبشكل خاص النقدي. الأطماع التركية في منطقة حلب تاريخية، لكن تركيا معنية أيضاً بمنع تسلل المقاتلين، خاصة الأجانب إلى الداخل التركي، وكذلك مراقبة التواصل بين العلويين الذين يشكلون أغلبية في جنوب غرب تركيا، المحاذي لريف اللاذقية.

يصل بنا الحديث إلى الطائفة العلوية التي تعرضت لأبشع المجازر وسط صمت مريب محلي، وعربي ودولي. باستثناء الهجوم على حاجز في منطقة جبلة يوم 6 آذار/مارس، والذي يفترض أن مجموعة تابعة للنظام السابق قامت به، لم تسجل الأخبار والصور سوى مشاهد القتل الجماعي للمدنيين من رجال ونساء وأطفال، وتدمير الممتلكات ونهبها، وإهانة المواطنين السوريين بشكل يثير الغضب والاشمئزاز. لكن، ولغياب المعلومات الدقيقة، سأعتمد أرقام المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي ادّعى أنه خلال الأيام الثلاثة الأولى للمجزرة قتل 125 عنصراً أمنياً منهم 93 من السوريين و32 من جنسيات أخرى، في حين قتل 100 مسلح من أعوان النظام و 1081 مدنياً. المقارنة البسيطة للأرقام تشير أننا أمام حالات تصفية لأشخاص، قام بعضهم (100) باستعمال سلاحه الشخصي للدفاع عن نفسه. إذا كان هذا الاستنتاج مرفوضاً، فعلى الأقل، نحن أمام معركة صغيرة يتفوّق فيها طرف على الآخر بشكل كامل. وهنا، لا بد من التساؤل عن سبب استقدام التعزيزات من إدلب، ودمشق، وحمص، وعن سبب التصريحات النارية لوزير الدفاع التركي حول استهداف أي تحرك على الحدود السورية- العراقية (الحشد الشعبي) أو الحدود السورية- اللبنانية (حزب الله)، وما الداعي للحملة الإعلامية التي تتهم إيران بالوقوف خلف أحداث الساحل، والأكاذيب حول عودة ماهر الأسد لقيادة المعركة؟ ولماذا اقتصرت الضحايا، بعد الأيام الأولى، على المدنيين الأبرياء؟

تقول العرب "يكاد المريب أن يقول لصاحبه خذني"، ما تخشاه الولايات المتحدة، التي تستنسخ تجربة احتلالها للعراق في سوريا، أن تنتهي الأمور إلى تقسيم طائفي لسوريا ينتج عنه "حشد شعبي" سوري يسيطر على منطقة الساحل، ويكون على تواصل مع المقاومة في لبنان، ما يعيد فتح خط المساعدات للمقاومة عبر سوريا، ويمنح المقاومة عمقاً استراتيجياً ويجعلها أقرب إلى عمق حلف "الناتو" في تركيا.

كان من الضروري القضاء على جميع هذه الاحتمالات في مهدها من خلال حملة كبرى تنزع أي إمكانيات عسكرية لدى العلويين مهما كانت بسيطة، وتروّع المدنيين وهم في غالبيتهم من الفلاحين الفقراء، وتدفع القادرين من المتعلمين وأصحاب رؤوس الأموال إلى الهجرة إلى الداخل السوري، أو إلى خارج سوريا. النتيجة، سيطرة كاملة على منطقة الساحل وعلى الحدود مع لبنان وتركيا.

ضمن هذه السيناريوهات المعقدة والمتشابكة، نستطيع القول إن الحديث عن سوريا موحدة ما زال في إطار الأمنيات، خاصة وأن الأطراف التي وقّعت على اتفاقات تنصّلت منها، سواء من خلال الإعلان الدستوري، أو برفضه جملة وتفصيلاً، كما فعل الدروز ومجلس سوريا الديمقراطي "مسد".

في الوقت نفسه، فإن الحديث عن تقسيم وشيك ما زال خارج إمكانيات أي طرف بعينه. السيناريو الأكثر احتمالاً هو تحويل سوريا إلى مناطق نفوذ لقوى إقليمية ودولية متنافسة، تعمل فيما بينها على حسم صراعاتها وترتيب اتفاقياتها بعيداً من أي دور لدمشق ولمعظم القوى والفصائل السورية العاملة على الأرض.