عمّن تعبّر افتتاحية مجلة "الدراسات الفلسطينيّة"؟!

لست الوحيد الذي تنبّه إلى ما في الافتتاحية من انحراف، وأحسب أنها يجب أن لا تمر.

  • دفاع روسيا عن أمنها يصفه الياس خوري بالغزو، ويواصل بأنه متفاجئ من انهيار القيم بسبب غزو روسيا لأوكرانيا!
    دفاع روسيا عن أمنها يصفه الياس خوري بالغزو، ويواصل بأنه متفاجئ من انهيار القيم بسبب غزو روسيا لأوكرانيا!

في العدد 130 من مجلة "الدراسات الفلسطينية"، عدد ربيع 2022، افتتاحية كتبها رئيس التحرير الياس خوري، وهي بعنوان "من الطنطورة إلى آخره"، تقع في عدة مقاطع، وتعد القارئ بقراءة معمّقة لوقائع المجزرة، ومتابعة ما خفي من فصولها، وربما قراءة مسلسل المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية: الهاغناه، شتيرن، هاتسفاي ليومي وغيرها.

ولكن القارئ مثلي يفاجأ بأن الكاتب يقفز في القسم الرابع من افتتاحيته من مجزرة الطنطورة والاستفاضة في تركيز الضوء عليها إلى موضوع بعيد عنها، يحدث أمام العالم كله، وما زال ضجيجه يصمّ الآذان، وهو لم يكتمل بعد: الحرب في أوكرانيا.

والحرب في أوكرانيا تدفع بشعوب وأمم ودول صغرى وكبرى أن تتابع ما يحدث، وهي ترى التطاحن في أوكرانيا بين روسيا والتحالف المواجه الذي لا يخفى على أحد: حلف الناتو الذي يبرز في الواجهة، مع استثناءات لبعض دوله، وتردد بعضها الآخر، ومن خلف هذا الحلف المايسترو الأميركي. 

بالنسبة إلينا كعرب فلسطينيين، وكجماهير عربية بشكل عام، يجب ألا يخفى الدور الصهيوني في هذه الحرب عن المتابعين، الذين يعرفون أن كثيرين في قيادة أوكرانيا هم صهاينة، من رئيس الدولة إلى عدد غير قليل ممن يشغلون مراكز مهمة في الدولة الأوكرانية، وهؤلاء برز دورهم منذ انقلاب 2014. 

في المقطع الرابع من الافتتاحية يقفز الياس خوري من الطنطورة إلى روسيا، فيصف حربها الدفاعية عن أمنها وحدودها ومصالحها، وعن بقائها كبلد عريق موحّد بـ "الغزو"، كاتباً ما يلي: "غير أن الغزو الروسي لأوكرانيا أتى ليفاجئنا بالمدى الذي وصل إليه انهيار القيم في العالم". دفاع روسيا عن أمنها يصفه الياس خوري بـ "الغزو"، ويواصل بأنه متفاجئ من انهيار القيم بسبب غزو روسيا لأوكرانيا! 

الياس خوري متفاجئ من روسيا، ولكنه غير متفاجئ بما حدث في أوكرانيا عام 2014، وهو لا يعرف شيئاً عن جرائم الانقلابيين الأوكرانيين ومذابحهم التي اقترفوها بحق الروس. ولا يعرف أن حلف الناتو وأميركا المهيمنة عليه يقفان خلف أُوكرانيا، ويدعمانها بالمال والسلاح، وأن قادة الكيان الصهيوني، بينت وشركاه الذين يذبحون الشعب الفلسطيني هم في مقدمة من يدافعون عن قيادة أوكرانيا التي يقودها زيلنسكي، الممثّل الكوميدي الذي يلعب دوراً تراجيدياً يحاول أن (يبدع) في أدائه، ولكنه ليس سوى ممثّل صغير في الدراما الدائرة هناك، والتي ربما ترسم مستقبل البشرية، وتنهي حقبة هيمنة القطب الواحد على العالم. 

يواصل الياس خوري هجاءه لروسيا فيصف حربها في مواجهة حلف الناتو المدعوم أميركياً بالحملة العسكرية الروسيّة، ويصدر أحكاماً شخصية عن صراع يدور بين روسيا ومن هم وراء أوكرانيا. ولأن خوري منحاز إلى أوكرانيا وقيادتها الانقلابية التي اغتصبت الحكم في عام 2014 واقترفت المذابح، وطردت الرئيس المنتخب من الشعب، وزرعت بذور العنصرية التي استهدفت الأوكران الروس، يواصل الشتم والهجاء لكل ما هو روسي. ويكتب: "من جهة ثانية، تأتي اللغة القومية الروسيّة بلهجتها المتغطرسة، وطموحاتها الشوفينيّة لتصبّ النار على نار الروسي-فوبيا". 

كيف استنتج الياس أن اللغة الروسيّة لهجتها متغطرسة؟ الرئيس الروسي بوتين يتكلم، وينتقد، ويشرح ما يجري بهدوء، ويدعو إلى كفّ قيادة أوكرانيا عن التحرّك وفقاً للأوامر الأميركية، وكان نصح قادة أوكرانيا الانقلابيين عدم الانضمام إلى حلف الناتو، لأن في هذا الأمر تهديداً لروسيا، فالحلف سيضع قواته ورؤوسه النووية الأميركية على حدود روسيا، وفي هذا تهديد لموسكو ولأمنها. فمن الذي أشعل الحرب، وكان في سباق مع روسيا؟ 

ولأن الياس خوري نسي الطنطورة ومذبحتها، وقفز إلى هدفه الواضح وهو مهاجمة روسيا، نجده لا يكتفي بمهاجمة روسيا بل يندفع إلى مهاجمة الرئيس الروسي بوتين: "ليس مستغرباً أن يلجأ بوتين إلى لغة الاستعلاء القومي، أو أن يندفع إلى إطاحة حق الشعوب في تقرير مصيرها، لكن المستغرب أن يكون الرد على النزق الروسي من خلال نزق أميركي".

هل هذا تحليل سياسي؟! هل ما يجري في أوكرانيا من حرب يغذي نيرانها حلف الناتو وأميركا، هو مجرّد نزق؟! وهل الرئيس بوتين هو من يرفض الحوار؟ وهل الحرب الروسية الدفاعية هي وليدة نزق؟! وهل روسيا هي التي تستبد في العالم، وهي التي تقرر محاصرة دول كبرى وصغرى بالعقوبات حتى طالت الصين وفنزويلا وإيران بعد كوبا ؟! 

يكتب الياس في افتتاحيته في الفقرة قبل الأخيرة: "الغزو الروسي من جهة و... الرد عليه من جهة أُخرى". لاحظوا أيها القرّاء: الغزو الروسي.. والرد عليه، يعني الغزو الروسي هو الذي بدأ الحرب، ومن ردّوا عليه لم يفعلوا سوى أن ردّوا عليه!! ثم يطلق وصفاً إضافياً على لغة الخطاب الروسي: "وصلافة روسية تختزن خطاباً قومياً لا يقود إلا إلى الخراب". وفي الفقرة الأخيرة: "إسرائيل تتبنى الخطابين معاً: خطاب قومي-ديني يُذكرنا بالخطاب البوتيني عن حق روسيا في الاستيلاء على أوكرانيا لأسباب تاريخية -أسطوريّة". بوتين قدّم خطاباً عقلانياً عن حق روسيا في الدفاع عن نفسها، ونبّه إلى خطورة ما سيجره انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، ووضح السبب: لأن هذا سيعني وضع الصواريخ على رأس موسكو، وهذه الصواريخ تعني محاصرة روسيا وتطويقها، ومن بعد الانتقال إلى خطوات تفكيك روسيا، والعبث في داخلها. والصهاينة هناك كفيلون بذلك!

مجلة "الدراسات الفلسطينية"، كما أعرف، دورها أن تكتب عن القضية الفلسطينية، وتدافع عنها وتؤرخها، وفي تاريخ القضية المعروف أن الإمبراطورية الأميركية هي الراعي للمشروع الصهيوني، والمُسلّح، والمموّل، وأنها لم تكن وسيطاً نزيهاً بين الفلسطينيين والصهاينة، بل كما وصفها البروفسور رشيد الخالدي مستشار الوفد الفلسطيني في مفاوضات واشنطن: وسطاء الخداع. وهؤلاء الوسطاء هم من جرّ القيادة الفلسطينية إلى كارثة أوسلو. افتتاحية الياس خوري تمثله وحده، وهي تساوي بين الصديق والعدو الراسخ العداء، وتمثّل رؤية مشوشة غير لائقة، وتخلط بقصد، وتتخذ من الطنطورة عنواناً، ثم تقفز منه لقول وجهة نظر شخصيّة عن الحرب في أوكرانيا. كان على الياس خوري أن يكتب ملاحظة في مطلع افتتاحيته: هذه الافتتاحية لا تمثل وجهة نظر مجلة "الدراسات الفلسطينية"، ولكنه لم يفعل، وأراد أن يوحي عبر افتتاحيته المفككة المنحازة ضد روسيا والرئيس بوتين، بأن الرئيس بوتين لا يمثل روسيا وجيشها وشعبها، ويحرص على تاريخها وتراثها، ولا يقبل بالتفريط بحقوقها كما فعل السكّير يلتسين. هذا بعض ما نبهت إليه في افتتاحية الياس خوري، وهي افتتاحية مخجلة منحازة ضد روسيا ورئيسها، ولست الوحيد الذي تنبّه إلى ما فيها من انحراف، وأحسب أنها يجب أن لا تمر.