عن خيانة المثقّف وخيانة التاريخ

أين المثقّف مما يجري؟ أين صوت الأدب الذي سيسجّل هذا الصمت المريع؟ أين السينما والمسرح والفن الذي لم يعد يهتمّ بالقضية الفلسطينية؟ وماذا سيكتب التاريخ عن الإبادة الجماعية بحقّ أهل غزة؟

0:00
  • المثقّف العضوي ليس مواطناً عادياً بل حارساً للذاكرة!
    المثقّف العضوي ليس مواطناً عادياً بل حارساً للذاكرة!

أن تتابع الإبادة في قطاع غزة، أمام صمت العالم، وأن تستمع للأخبار في الوقت الذي يهدّد فيه سموترتش وبن غفير بتجويع غزة بينما تأكل الأمة ما لذّ وطاب، وأن يموت كلّ يوم عشرات الأطفال والنساء من دون أن يصرخ أحد من أجل وقف الدم، يستوقفك لأن تسأل: أين المثقّف مما يجري؟ أين صوت الأدب الذي سيسجّل هذا الصمت المريع؟ أين السينما والمسرح والفن الذي لم يعد يهتمّ بالقضية الفلسطينية؟ وماذا سيكتب التاريخ عن الإبادة الجماعية التي تحدث منذ عامين في بثّ حيّ ومباشر بحقّ أهل غزة؟ بينما تتمتم لنفسك: للأسف، لقد انتقل المثقّف العضوي إلى مثقّف مأجور، إذ خان معظم هؤلاء المعرفة قبل أن يخونوا الشعوب، فهل سيأبهون للتاريخ؟ وإلى أن يكون للأسود مؤرّخون حسبما يقول المثل الأفريقي، سيظلّ التاريخ يمجّد الصياد. لذلك كان لا بدّ من المثقّف الحقيقي، الذي خرج من رحم المعاناة، أن يصرخ "لا" في وجه من قالوا "نعم"، مستذكراً قول الشاعر الراحل أمل دنقل، صاحب قصيدة "لا تصالح" حين يعبّر عن المثقّف الملتزم بقضايا أمته بقوله: معلّق أنا على مشانق الصباح وجبهتي بالموت محنية، لأنني لم أحنها حيّة.

فالمثقّف هو صوت الأمة، هو أوّل من يقاوم، يدفع ثمن مواقفه المعارضة لسياسات أيّ نظام يستقوي على صوت الشعوب، والمثقّف ليس بوقاً لسلطة أو عبداً لمنصب أو مصلحة كما بات المشهد اليوم، بل صانع فكر وصمام أمان، وأتذكّر هنا رواية "عو، الجنرال لا ينسى كلابه" لإبراهيم نصر الله، الذي تحدّث عن الصحافي الذي أصبح رئيساً للتحرير بعدما صار بوقاً للجنرال، ورغم ذلك فالتاريخ لا ينتمي إلى أصحاب ربطات العنق والسيارات الفارهة، وسينسى حضورهم الآني طالما هناك أقلام حرّة، تحارب من أجل الحرية؛ فمن خرج من فوهات الأنفاق ومن بين ركام البيوت، لا يشبه من كانوا قبلوا على أنفسهم أن يكونوا أدوات ناعمة للاستعمار أو أدوات للقمع الفكري بيد الجنرال. 

كثيراً ما يراودني: من الذي سيقنع الأجيال اللاحقة بحقيقة ما يجري؟ من الذي سيخبرهم كيف ولماذا خنعت الأمة في الوقت الذي كان فيه إخوة التراب والدم والدين واللغة يموتون جوعاً وقنصاً وتدميراً، بينما تصدأ أسلحة الجيوش العربية في مخازنها؟ من سيقنع الأطفال حين تكبر، أنّ أكثر من مليوني فلسطيني لا يجدون الطعام، يسيرون لأكثر من عشرين كيلومتراً إلى الجنوب لأجل الحصول على حفنة طعام، بينما تشرع الشركات الأمنية الأميركية بقنصهم واحداً واحداً في مشهد لن تنساه البشرية؟ هل ستخرج تلك الأبواق المسترزقة لاحقاً لتدافع عن صمت وخنوع الأنظمة؟ أم ستلوم الضحية لأنه يسعى للتحرّر من براثن الاستعمار؟ 

لقد انحرف المثقّفون عن الإرث التحرّري، وتخلّت كثير من بلدان هذه الأمة عن سيادتها لصالح الوصاية الخارجية، بدلاً من صناعة القوة التي تسمح لها ببناء تحالفات عظيمة مع جيران القومية أو الدين، تحفظ هيبتها وكرامتها، كما صارت الأنظمة التي تغنّت بالثورات تميل كلّ الميل مع المستعمر في حصار ومحاربة الأخ والصديق، ولعلّ النموذج الإيراني يفنّد حقيقة التبعيّة العمياء، إذ تنطلق الطائرات من القواعد الأميركية في البلدان العربية وقاعدة إنجرليك التركية ضدّ تلك الجمهورية وغيرها ممن يسعى للخروج عن النظام العالمي الرأسمالي الذي تتسيّد فيه "دولة" الاحتلال على رقاب أيّ مشروع نهضوي حقيقي يواجه المستعمر. 

لقد ارتهنت معظم النظم العربية والإسلامية للمساعدات الغربية مقابل الولاء، والقروض مقابل التبعيّة، رغم أنها تمتلك الأرض والموارد الطبيعية التي تغنيها عن العالم، فالسودان وحده يمكنه أن يكون سلّة العرب الغذائية، وليبيا الجنة الخضراء ومصر القطن وقصب السكر وو، لكن الاستبداد الداخلي ورفض تداول السلطة ومحاربة الفكر المعارض، والاعتماد على الحماية الأجنبية جعل الأمة في ذيل القافلة، لا تأبه بالتحضّر والنهوض، بل بالبقاء على كرسيّ الحكم، تتسوّل من البنك الدولي وهي تمتلك الطعام والشراب. 

لقد خسرت النظم الشمولية الثقة الشعبية، وانكشفت أمام الأزمات الأخلاقية، القومية والدينية، إلا أنّ المثير للحنق هو صمت وخنوع أقلام السلطة التي خانت التاريخ النضالي الطويل بتمجيد الصياد ولعن الأسود، ونسيت الحسين والحلّاج وغسان كنفاني وباسل الأعرج وغيرهم الكثير. 

لقد أثبت المثقّف أمام امتحان غزة الأخلاقي والتاريخي سقوطه المدوّي، وسقوط أخلاقه وضميره؛ إذ كيف سمح لهذه الإبادة أن تحدث من دون أن نسمع له رِكزاً؟ أين الضمير الجمعي العربي؟ أين الأقلام والألوان والسينما التي تلهم الشعوب للثورة؟ أين هؤلاء من المقاطعة الاقتصادية؟ أينهم من فضح الإعلام العالمي المتواطئ؟ أين قصصهم ورواياتهم ولوحاتهم وعروضهم الفنية؟ أينها من التظاهر أمام السفارات وفي الشوارع والأزقة؟ أين كلّ هؤلاء من الصراخ على الفضاء الأزرق على الأقلّ؟ حتى السوشيل ميديا العربية لم تعد تهتم بما يجري مع الإبادة في قطاع غزة. 

ربما تبيّن أنّ المكان الوحيد الحرّ هو غزة، بينما عقول الأمة محاصرة، فقد انتهت شعارات التحرّر إلى تحالفات مع الجلّاد؟ والجلّاد يتمثّل في الجنرال الذي بات الجميع يدين له بالولاء كما في رواية "عو"، وباتت غزة وأحلافها يمثّلون رمز الوعي والحرية. 

لقد غدر المثقّف بالتاريخ وباع نفسه لمصلحة لن تمنحه المجد، من دون مواربة أو تجميل لهذا الواقع المدلهم، الفاضح لأرباب القلم والريشة؛ في الوقت الذي حمل فيه قلّة البنادق والأقلام لأجل الحرية، وغزة بأطفالها ونسائها وشيوخها تحاكم المثقّفين بالمعيار الأخلاقي: هل كان هؤلاء مع الإنسان أم ضدّه؟ أما كان عليهم الانتفاض في وجه الجنرال حين خاف الآخرون؟ فالمثقّف الحقيقي يكتب رغم القمع ويتحدّث رغم الحصار ويقف حيث يقف الأطفال لا حيث تقف المدافع. 

المثقّف العضوي ليس مواطناً عادياً بل حارساً للذاكرة وخيانته أشدّ خطراً من خيانة الجنرال؛ لأنه حين يخون يضلّل أمّة بأكملها.. باختصار: إن خان المثقّف؛ فمن ينير الطريق؟