في الحاجة إلى تحريم وتجريم الخطاب الطائفي في سوريا
تعيش سوريا حالة من عدم الاستقرار الداخلي تحمل في طيّاتها نذر حرب أهلية باتت جميع أسبابها متوفّرة، فالداخل مفكّك، والخارج متربّص، والسوريون وحدهم هم الوقود لكلّ ما يجري.
-
سوريا.. ما خطورة الوضع الداخلي؟
حالة من الانفتاح العربي والدولي على سوريا حملت معها آمالاً بالتوصّل إلى رفع العقوبات المفروضة عليها، إيذاناً ببدء مرحلة جديدة عنوانها إعادة الإعمار ودوران عجلة الإنتاج.
هذا النجاح في السياسة الخارجية رافقته توترات على الصعيد الداخلي لا يمكن قراءتها بعيداً عن وجود فواعل خارجية أدّت دور المحرّك والمحرّض، وصولاً إلى وقف الانفتاح الدولي على حكومة دمشق. فرغبة الدول بـ "النظر إلى الأفعال لا الاستماع إلى الأقوال" تؤكّد أنّ الحكومة السورية لا تزال تحت المجهر، وتصرّفات البعض قد تحرّفها عن سعيها لتحقيق الوعود التي تعهّدت بها.
الحديث عن مخاوف "الأقليات" لم يعد مبرّراً في ظلّ رغبة الجميع في بناء الدولة، شريطة أن يكون فكر الدولة هو المسيطر، والكفاءة هي المعيار. فعلى الجميع الاعتراف أنّ من يحكم سوريا اليوم ليس هيئة تحرير الشام، بل حكومة جديدة باتت تحظى بدعم واعتراف عربي ودولي، وإن كانت "حكومة الأمر الواقع" كما يروق للبعض تسميتها، فإنّ ذلك لن يغيّر شيئاً.
التعامل مع هذه الحكومة يحتّم على الجميع الانصياع لها، والتخلّي عن السلاح المنفلت خارج إطار الدولة، وهو مطلب شعبي لباقي شرائح المجتمع السوري.
خطورة الوضع الداخلي في سوريا
تعيش سوريا حالة من عدم الاستقرار الداخلي تحمل في طيّاتها نذر حرب أهلية باتت جميع أسبابها متوفّرة، فالداخل مفكّك، والخارج متربّص، والسوريون وحدهم هم الوقود لكلّ ما يجري.
فمن تهديدات تنظيم "داعش"، مروراً بالبيان المنسوب إلى رامي مخلوف وما يجري من أحداث في الساحل، والانقلاب الكردي على الاتفاق الموقّع مع حكومة دمشق، وصولاً إلى الجنوب السوري المتوتر وخاصة في السويداء ودرعا، والذي وصلت انعكاساته إلى محيط العاصمة دمشق وباتت تهدّد الأمن الأهلي فيها.
تعظيم المخاطر أمر تحتّمه طبيعة العمل السياسي، ففي السياسة لا مجال للتفاؤل والتشاؤم، خاصة وأنّ الرهان هنا على وحدة الوطن ومستقبل أبنائه. ففي الأزمات عادة ما تسعى الحكومات للتقليل من خطورة الأوضاع التي تمرّ بها البلاد سعياً منها لطمأنة الرأي العامّ، وهو أمر جيد، لكنها تقع في الخطأ حين تصل حدّ القناعة لجهة إنكار الواقع والانفصال عنه.
هذه الحالة كثيراً ما تنطبق على النظام السابق، والتي كانت نتائجها سقوطه بسرعة لم يكن يتوقّعها أحد، لكنّ تأخّر سقوطه كان ثمنه المزيد من الخراب والدمار لسوريا. لكنّ الحديث عن الماضي لا معنى له إذا لم يكن الهدف منه استخلاص العبر وتجنّب الأخطاء ومنع تكرارها، وأهم هذه الأخطاء محاولة "تجميل الواقع" وتجريم كلّ من يتحدّث عنه بمنطق وعقلانية.
تدمير سوريا لم يكن مقتصراً على البنيان، بل إنّ الخطر الأكبر يكمن في حالة الانقسام النفسي التي يعيشها المجتمع السوري، والتي تصل في كثير من الأحيان حدّ القطيعة مع الآخر وشيطنته، وبالتالي استحالة التعايش معه.
المشكلة تكمن في أنّ الكثير من السوريين يريد "العبور إلى المستقبل" وعيناه تنظران إلى الماضي، وهو ما يعني حتمية الاصطدام بتحدّيات الواقع التي لم نعد نملك "الإجماع" اللازم لتذليلها.
البيئة ممهّدة لأيّة فتنة طائفية، وما حدث في مدينة جرمانا دليل على ذلك، فكيف لمقطع صوتي مفبرك أن يؤدّي إلى اقتتال قبل أن يتمّ التأكّد من صحته، بل إن بيان وزارة الداخلية السورية جاء لينفي صحة هذا التسجيل.
المجلس الأعلى للإفتاء ورجال الدين من جميع الطوائف مطالبين اليوم بالقيام بدور يؤدي إلى التهدئة وتقديم خطاب وطني جامع، فجوهر الدين وهدفه حفظ كرامة الإنسان أولاً وقبل أيّ شيء.
تحييد الجامعات عن السياسة يحفظ العلم ويحول دون تسييسه، ويبعد الشباب السوري عن نقاشات قد تؤدّي في النهاية إلى نتائج لا تحمد عقباها، وما رأيناه مؤخّراً من خلافات في بعض الجامعات السورية، سرعان ما أخذت منحى طائفياً محدّداً، خير دليل على ذلك.
المنابر ودورها في تهدئة النفوس ونشر قيم التسامح والمواطنة، أمر يجب التركيز عليه، فالمجتمع السوري مجتمع متديّن بالفطرة، وبالتالي فإنّ الدين يجب أن يكون عاملاً للتوحيد لا سبباً في التفرقة.
التحريض الطائفي في مواقع التواصل
في عصر الذكاء الاصطناعي واستخدام تقنية التزييف العميق لا يزال البعض يتعامل بسطحية وسذاجة مع كل ما يراه أو يقرأه، متناسياً أنّ إعلام ما بعد الحداثة لم يعد ناقلاً للخبر فقط، بل صانعاً له.
لقد باتت الجيوش الإلكترونية أحد أبرز مظاهر الحروب الحديثة، فكثرت الحسابات الوهمية التي تستخدم لتنفيذ حملات تضليل ممنهجة، وبتنا نحن السلعة التي تستخدمها وسائل الاتصال الحديثة.
سيطرة الخطاب الشعبوي على مواقع التواصل الاجتماعي أدّت إلى انكفاء الكثير من النخب، نتيجة لعدم قدرتهم على التعبير عن توجّهاتهم وآرائهم، فالتهمة باتت حاضرة، وعبارة "وين كنتو أيام النظام" بتنا نقرأها في التعليق على صفحات العديد من الكتّاب والمثقّفين.
خطاب الكراهية بات سائداً، باعتبار "التركيز على ما يفرّق" هو الشغل الشاغل للكثيرين، بدلاً من "البحث عمّا يجمع" والبناء عليه. فحالة التهميش والإقصاء التي يشعر بها البعض يجب مناقشتها بإيجابية وبحالة من الانفتاح على الآخر وتجنّب أخطاء الماضي، بعيداً عن الاتهام والتخوين.
غياب الهوية الوطنية الجامعة وظهور هويات فرعية لدى البعض، تعيدنا إلى ما قبل الدولة، وهو ما يتجلّى في تصريحات وخطابات زعماء الطوائف والكيانات في سوريا. فعقليّة "المنتصر والمهزوم" لا تبني الوطن، فالسوريون جميعاً أخطأوا بحقّ وطنهم، وتغيير المواقف ولغة الخطاب السياسي تنمّ عن حالة من الوعي لا على تغيير في المبادئ كما يعتقد الكثيرون.
الحديث عن تأخّر مسار العدالة الانتقالية أفضل من الاستعجال الذي قد تكون نتيجته الفشل، وهو ما ستكون له انعكاسات سلبية على السلم الأهلي في سوريا. فالتريّث في تشكيل المجلس التشريعي ربما الهدف منه الوصول إلى "حسن الانتقاء"، فوصول أشخاص لا يتمتعون بالكفاءة والمهنية ستكون له انعكاسات سلبية على الصعيد الاجتماعي، وسيؤدي إلى تراجع في الدور المنتظر من المجلس.
الحوار الوطني هو حاجة وليس مجرّد وسيلة لاستكمال شكليّات الحكم، وتوفير بيئة الحوار تجعل الجميع يبوح عمّا يجول في خاطره، وصولاً لتفهّم كلّ طرف لمخاوف الآخر وهواجسه، بعيداً عن لغة التكفير والتخوين.
التحفّظات التي أبداها البعض حول الإعلان الدستوري يمكن تجاوزها بإصدار ملحق للإعلان الدستوري، في ظل استحالة تعديله حالياً، نتيجة لعدم تشكيل مجلس الشعب حتى اليوم. فالكثير من السوريين باتوا مقتنعين بضرورة تجريم الخطاب الطائفي وإدانة المحرّضين عليه، وحتمية أن تتصدّى المؤسسات الدينية لمهمة تحريم سفك الدم السوري بغضّ النظر عن الطائفة والانتماء والمذهب.
إنقاذ ما تبقّى من سوريا هو الهدف الأسمى لنا جميعاً، وهو ما يتطلّب منا تحذير بعض السوريين من سذاجتهم وخطورة أفعالهم، التي قد تؤدّي في المحصّلة إلى تقسيم سوريا وهو ما لا يريده الجميع بكلّ تأكيد.
الخروج من مأزق الطائفية البغيضة يتطلّب القيام بسنّ مجموعة من القوانين التي تحول دون تنامي الخطابات التي تكرّس الانقسام بين أبناء المجتمع السوري، والحرص على أن تكون إدارة الشأن العامّ محصورة بيد الدولة.