قراءة في الجهد الاستخباري الإسرائيلي في غزة بعد وقف إطلاق النار!

لا تكاد تخلو أي بقعة جغرافية في قطاع غزة من تحليق طائرات استطلاع الاحتلال، وهي أي هذه الطائرات تراقب كل الأماكن عن كثب، ولا تترك شارعا صغيراً كان أم كبيراً، ولا حيّا مُدمراً كان أم سليماً.

  • تُعتبر أجهزة الأمن الإسرائيلية صاحبة الجهد الاستخباري الأساسي في قطاع غزة.
    تُعتبر أجهزة الأمن الإسرائيلية صاحبة الجهد الاستخباري الأساسي في قطاع غزة.

سلّطت عمليات الاغتيال الإسرائيلية الأخيرة التي جرت في قطاع غزة والتي سقط جرّاءها عشرات الشهداء، إلى جانب عشرات المصابين والجرحى الضوء من جديد على الجهد الاستخباري لجيش الاحتلال في قطاع غزة، والذي وعلى الرغم من وقف إطلاق النار الذي تم التوصّل إليه منذ ما يزيد على أربعين يوماً، إلا أنه ما يزال في ذروته، هذا إن لم يكن قد تضاعف مرّات عديدة كما يشير بعض المصادر المطّلعة والعليمة داخل القطاع.

بنظرة سريعة على سماء مدن القطاع، ومن دون أن تكون خبيراً أمنياً أو عسكرياً يمكن لك أن تكتشف حجم الجهد الاستخباري الذي يجري، والذي يتم معظمه من خلال طائرات الاستطلاع بأنواعها المختلفة، والتي تحلّق على مدار الساعة من دون انقطاع، وتغطّي معظم المناطق من دون استثناء، مع تركيز واضح على بعض الأماكن التي يعتقد الإسرائيلي أنها ذات مواصفات استثنائية وخاصة.

سنحاول فيما يلي التفصيل في هذا الجهد ولا سيّما ذلك الذي يجري عبر طائرات الاستطلاع من خلال خمسة عناوين، تبدأ من الأطراف المشاركين فيه، مروراً بالأدوات المُستخدمة، والتوقيتات، والجغرافيا، وصولاً إلى الأهداف المُراد تحقيقها من ورائه.

أولاً: الأطراف المشاركون

تُعتبر أجهزة الأمن الإسرائيلية كما العادة صاحبة الجهد الاستخباري الأساسي في قطاع غزة، فهي تعمل ليلاً ونهاراً على جمع أكبر قدر من المعلومات الأمنية، إلى جانب معلومات عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي لسكّان القطاع، مُستخدمة مروحة واسعة من القدرات والإمكانيات المتقّدمة والحديثة، والتي تمنحها تفوّقاً كاسحاً على الطرف الفلسطيني الذي لا يملك سوى خبرات شبابه، وبعض الإمكانيات المتواضعة التي لا تُقارن على الإطلاق بمقّدرات الطرف الآخر.

إلى جانب أجهزة أمن العدو تأتي مساهمة أجهزة الاستخبارات الأميركية واضحة وجليّة، فبحسب الكثير من التصريحات التي سمعناها إبّان الحرب، أو التي تلت ذلك، فإن هناك مشاركة أمريكية فعّالة في هذا الجانب، وهذه المشاركة مُعلنة وإن كانت تحت عناوين مضلّلة من قبيل متابعة ومراقبة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار كما يحدث حالياً، وهي الحُجّة التي أُنشئت تحت ستارها وحدة المراقبة المتقدّمة والحديثة في منطقة "كريات جات" إلى الجنوب من مدينة تل أبيب. 

ليس هذا فحسب، بل إن مشاركة الطائرات التجسّسية الأميركية في الجهد الاستخباري فوق أراضي القطاع بات واضحاً، وهناك دلائل لا تقبل الشك على هذه المشاركة سنشير إلى بعضها بعد قليل.

بريطانيا هي الأخرى تشارك بفعالية في تقديم معلومات استخبارية لجيش الاحتلال، إذ كانت صحيفة التايمز قد كشفت عن طلعات جوية منتظمة فوق أراضي القطاع، خُصّص الجزء الأكبر منها لجمع معلومات عن الأسرى الصهاينة في فترة الحرب، فيما يجري التركيز حالياً على مراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار، وهي من وجهة نظرنا مجرد حُجّة لاستمرار هذه المشاركة ليس أكثر.    

ثانياً: الأدوات

تستخدم أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية إلى جانب شركائها الغربيين مجموعة واسعة من الأدوات لجمع المعلومات في قطاع غزة، تأتي في مقدّمتها طائرات التجسّس الحديثة وذات الإمكانات التكنولوجية الكبيرة، إلى جانب التجسّس الإلكتروني، إضافة إلى الاستخبارات البشرية من خلال العملاء والجواسيس، والتي وإن شهدت تراجعاً ملحوظاً خلال السنوات الماضية، إلا أنها ما زالت طريقة فعّالة ومضمونة للحصول على معلومات حسّاسة ومهمة وحديثة.

بالنسبة لطائرات الاستطلاع يبدو واضحاً خلال الاسابيع الأخيرة الاعتماد الإسرائيلي على مجموعة معيّنة من تلك الطائرات، تأتي في مقدّمتها طائرة "هيرمس-450" المسيّرة، والمعروفة باسم"زيك"، وهي طائرة تكتيكية مزوّدة بصواريخ تعمل عن بعد، وقادرة على التحليق والبقاء في الجو لمدة 20 ساعة متواصلة،وتُستخدَم في مهام الهجوم والاستطلاع وجمع المعلومات الاستخبارية.

ثانية الطائرات هي "هيرمس-900"، وهي أحدث نسخ هذا النوع من الطائرات، تستطيع التحليق في الجو لمدة 40 ساعة متواصلة، وبإمكانها حمل صواريخ جو-أرض، وصواريخ جو-جو، كما تحمل قنابل موجهة بالليزر من نوع "جي بي يو-12 " وقنابل "جيدام"، والتي تُستخدم في استهداف المواقع وشن الهجمات، وتنفيذ اغتيالات واستهدافات نوعية.

طائرة ثالثة يلاحظ بوضوح مشاركتها في الجهد الاستخباري مؤخرا وهي طائرة "هيرون"، وهي تختص في مهام الاستطلاع والتجسّس، وتوجيه المدفعية، وتحديد الأهداف، ويبلغ مداها 250 كم، وتطير حتى ارتفاع 10 آلاف متر، وتستطيع البقاء في الجو لمدة 40 ساعة، وتبلغ حمولتها من أجهزة جمع المعلومات والكاميرات الليلية والنهارية حوالى 250 كلغ. 

إلى جانب الطائرات الإسرائيلية، لوحظ أكثر من مرّة سواء أثناء العدوان أم في فترة التهدئة تحليق طائرات استطلاع غريبة في سماء قطاع غزة، وهذه الطائرات بالتحديد تحلق على ارتفاعات شاهقة، ولا تكاد تُرى بالعين المجرّدة كمثيلاتها الإسرائيلية، وهي تختلف عنها سواء من ناحية الشكل أم اللون، أم الأصوات الصادرة عنها، وهو ما عزّز فرضية مشاركة طائرات تجسّس غير إسرائيلية في العدوان على غزة ولا سيّما في مجال جمع المعلومات الاستخبارية.

حسب مصادر قريبة من المقاومة فإن إحدى تلك الطائرات هي الطائرة الأميركية "إم كيو-9" المتقدّمة والحديثة، والتي تُستخدم لغرض جمع المعلومات الاستخبارية وشن الهجمات الجوية أيضاً، ولديها القدرة على التقاط صور حرارية تحت سطح الأرض.

 الطائرة المسيّرة الأخرى غير الإسرائيلية التي قامت وما زالت بطلعات عديدة فوق أراضي غزة هي طائرة "شادو آر-1" البريطانية ،والتي تُعد من طائرات الاستطلاع التابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني، وهي مزودة بمستشعرات إلكترونية بصرية عالية الجودة لجمع البيانات،كما أنها تملك تكنولوجيا عالية تعطيها القدرة على فحص القوافل، والمركبات، والشوارع، والمجتمعات السكنية بدقّة متناهية.

فيما يخص الأدوات الأخرى غير الطائرات التجسسية، يلاحظ زيادة الاعتماد على التجسّس الإلكتروني من خلال اختراق الهواتف المحمولة، والتي يشير الكثير من المصادر إلى مسؤوليتها عن معظم عمليات الاغتيال الأخيرة، خصوصاً بعد تخلّي رجال المقاومة عن بعض احتياطاتهم الأمنية بعد اتفاق الهدنة، وعودة العديد منهم إلى استخدام تلك الهواتف ولا سيّما الحديثة منها.

كذلك الحال بالنسبة للتجسّس البشري، والذي شهد نشاطاً مضاعفاً خلال شهور الحرب، واستمر بعد اتفاق وقف إطلاق النار، حيث تعمل أجهزة أمن العدو على تجنيد المزيد من العملاء والجواسيس مستغلّة الظروف الاقتصادية الصعبة والقاسية في قطاع غزة، وذلك بعد معاناتها من نقص واضح في هذا الجانب خلال السنوات الخمس عشرة التي سبقت انطلاق معركة "طوفان الأقصى". 

 ثالثاً: التوقيتات

من الملاحظ أن تحليق طيران الاستطلاع التجسّسي الإسرائيلي منذ وقف إطلاق النار يستمر على مدار الساعة، وهو يتجاوز ساعات التحليق أثناء فترة الحرب ،ولا تكاد سماء مدن القطاع تخلو من وجود عشرات طائرات الاستطلاع بأنواعها المختلفة ،بل إن غياب أصوات تلك الطائرات في بعض الأحيان عن سمع المواطنين يكون مصحوباً بتحليق طائرات أخرى على ارتفاعات شاهقة، وهي تكون مخصّصة في العادة لاعتراض المكالمات الهاتفية ،والرسائل النصية ورسائل البريد الإلكتروني،والتي توفّر جزءاً مهمّاً من المعلومات التي تبحث عنها أجهزة أمن العدو.    

غير أن هناك بعض التوقيتات التي يزداد فيها تحليق طائرات استطلاع العدو، وهي أوقات شبه ثابتة، ويتكرّر التحليق فيها كل يوم بنفس الآلية تقريباً، وبنفس أنواع الطائرات كذلك، وخصوصاً طائرتي "هيرمس-450" وهيرون.

أحد هذه التوقيتات هو ساعة الذروة في حركة المواطنين داخل مدن القطاع، بداية من الساعة الثامنة صباحاً، وحتى أوقات ما بعد العصر، وهي عادة ما تتميز بالتحليق المنخفض للطائرات الإسرائيلية، والتي كما يبدو تحاول التركيز على تحرّكات المواطنين قرب الخط الأصفر، والتي عادة ما تكون مصحوبة بقصف مدفعي مكثف للتمشيط، أو لمتابعة تحرّكات بعض الأشخاص الذين تعتقد أجهزة أمن العدو بأنهم من ناشطي المقاومة.

توقيت ثانٍ لافت هو ساعات الليل المتأخّرة، والتي تبدأ بعد العاشرة مساء، حيث تنشط فيه حركة الطائرات التجسّسية بشكل ملحوظ وغير منقطع، والتي تحلّق في كثير من الأحيان على علو مرتفع، خصوصاً في المناطق البعيدة نسبياً عن الخط الأصفر، وهذا الأمر يُفسّر في غزة بأنه محاولة لاستغلال عودة الناس إلى مناطق سكناهم سواء في البيوت أم في مراكز ومخيّمات الإيواء لتحديد أماكن سكن المقاومين، والمناطق التي يبيتون فيها، خصوصاً من خلال رصد هواتفهم النقّالة التي كما أشرنا أعلاه بات العديد من رجال المقاومة يستخدمها.        

رابعاً: الجغرافيا

لا تكاد تخلو أي بقعة جغرافية في قطاع غزة من تحليق طائرات استطلاع الاحتلال، وهي، أي هذه الطائرات، تراقب كل الأماكن عن كثب، ولا تترك شارعاً صغيراً كان أم كبيراً، ولا حيّاً مُدمّراً كان أم سليماً، أو مركز إيواء تم إنشاؤه حديثاً أو قديماً إلا وحلّقت فوقه، وبحثت في كل حدوده وتفاصيله، غير أن هناك مناطق بعينها تنال حصّة الأسد من هذا التحليق أكثر من غيرها، حيث تأتي مدينة غزة أكبر مدن القطاع وأكثرها سكاناً في مقدّمتها، وهي التي نالت نصيباً وافراً من العدوان، وتعرّضت لدمار هائل خصوصاً في الشهور الثلاثة الأخيرة من الحرب.

خان يونس، أو ما تبقى منها، تنال هي الأخرى حصّة كبيرة من طلعات المسيّرات الإسرائيلية، وهي المدينة التي يُنظر إليها إسرائيلياً بأنها مهمّة وحيوية، وتم من حدودها اقتحام العدد الأكبر من المستعمرات الإسرائيلية صباح السابع من تشرين أول/ أكتوبر من العام ما قبل الماضي، وفيها تم احتجاز عدد كبير من الأسرى الإسرائيليين.

المنطقة الوسطى من القطاع وخصوصا مخيّم النصيرات تحظى بنسب تحليق مكثّفة أيضاً، وهي، أي النصيرات، يُنظر إليها بأنها أهم مدن هذه المنطقة وأكثرها حيوية خصوصاً فترة الحرب بسبب نزوح عشرات آلاف المواطنين إليها، وبسبب قربها أيضاً مما كان يُعرف بمحور نتساريم.        

مناطق أخرى يتم التركيز عليها خصوصاً بعد وقف إطلاق النار وهي المناطق الشرقية والشمالية من القطاع، والتي تجاور المناطق التي ما يزال الاحتلال يسيطر عليها داخل منطقة الخط الأصفر، حيث تحظى هذه المناطق بنسب تحليق عالية جداً وفي كل الأوقات، حيث تحلّق الطائرات فيها بشكل عرضي من الشمال إلى الجنوب أو بالعكس وليس بشكل دائري كما جرت العادة، وهذا الأمر يرجع إلى محاولة منع أي عمليات تسلل أو دخول إلى مناطق وجود جيش الاحتلال، خصوصاً أثناء قيامه بعمليات التدمير والتفجير الممنهجة داخل المنطقة الصفراء.    

خامساً: الأهداف القريبة والبعيدة

يمكننا الإشارة إلى مجموعة من الأهداف التي يسعى العدو إلى تحقيقها بواسطة ارتفاع وتيرة جهده الأمني والاستخباري في قطاع غزة، جزء منها يتعلق بالفترة الحالية والتي تشهد خروقات إسرائيلية واضحة لاتفاق التهدئة، وجزء آخر مرتبط بالمرحلة المقبلة من الاتفاق، والتي يحاول العدو التنصّل منها وتعطيلها بكل الطرق والوسائل.

أحد الأهداف القريبة هو تحديث بنك المعلومات الذي تناقص بشدّة خلال فترة الحرب نتيجة إجراءات الوقاية التي اتخذتها فصائل المقاومة، وهو أي العدو يحاول استغلال حالة التراخي التي بدت في عمل وتحركات المقاومين بعد وقف إطلاق النار، حيث بدا هذا التراخي واضحاً في عمليات الاغتيال الأخيرة التي استهدف بعضها قيادات يتحركون في سياراتهم، وآخرين في مقرّات ومواقع مكشوفة وثابتة.

هدف آخر هو مراقبة ومتابعة شخصيات بعينها، وهذا الأمر يكون عادة مقدّمة لاستهدافهم وتصفيتهم بحجج واهية كالتي يسوقها الاحتلال عند كل عملية اغتيال، وفي هذه الحالات يكون تحليق طائرات العدو دائرياً وسريعاً ومنخفضاً، وهو يسعى من خلاله للإطباق على الهدف، ومنعه من التحرك، أو دفعه للتوجه إلى مكان يعرفه الاحتلال مسبقاً ويمكنه استهدافه بداخله في أي لحظة.

فيما يخص الأهداف بعيدة المدى فهي تشمل مجموعة واسعة من الأهداف، منها استمرار حالة الضغط القصوى على قطاع غزة، ومنع المواطنين والمقاومة من التقاط أنفاسهم، وجعلهم يشعرون بأن الحرب لم تنتهِ، وأنهم ما زالوا رهائن لرغبات "دولة" الاحتلال، التي يبدو أنها لم تشبع بعد من دماء أطفالهم ونسائهم.

هدف آخر وهو أهم الأهداف كما يبدو وهو التجهيز والاستعداد لاستئناف العدوان في حال فشل وسقوط اتفاق التهدئة، خصوصاً في مرحلتيه الثانية والثالثة، واللتين يُتوقّع أن تشهدا تعقيدات وصعوبات أكثر من المرحلة الأولى، ولا سيّما فيما يخص مسألة نزع سلاح المقاومة وتفكيك فصائلها، والتي بات رئيس وزراء العدو يعتبرها هدفاً أساسياً من أهداف الحرب.  

على كل حال، وبعيداً عما يشكّله استمرار أو زيادة الجهد الاستخباري للعدو في قطاع غزة من مشاكل ،وهو الأمر الذي ينسحب على ساحة الضفة المحتلة، وعلى ساحات المقاومة الأخرى في الإقليم، فإننا نعتقد بأن كل مساعي الاحتلال في هذا الصدد لن تُؤتي أُكلها، وستفشل كما فشلت نظيراتها خلال السنوات والشهور الماضية، والتي كشفت معركة طوفان الأقصى عن عجزها وفشلها في مواجهة مقاومة الشعب الفلسطيني البطل، هذا الشعب الذي سيواصل مسيرته المظفرة حتى ينال حريّته ،وحتى يرحل هذا الاحتلال المجرم عن أرضه ومقدّساته بغير رجعة بإذن الله.