لبنان بين ضغوط العدوان وهشاشة الوساطة المصرية

الوساطات العربية في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد "طوفان الأقصى", باتت محصورة في إطار العمل على تنفيذ الأجندة الأميركية التي توافق في أهدافها النهائية المرتكزات الأمنية والاستراتيجية الإسرائيلية.

0:00
  •  التوجه الدولي المناوئ للمقاومة يستهدف التركيز على الضرر الذي أصابها.
    التوجه الدولي المناوئ للمقاومة يستهدف التركيز على الضرر الذي أصابها.

في زيارته الحالية إلى لبنان، يقدم وزير الخارجية المصري دور الدولة المصرية على أنه وساطة تستهدف الحؤول دون تصعيد إسرائيلي ضد لبنان، إذ يبحث مع الجهات الرسمية اللبنانية كيفية سحب الذرائع التي من الممكن أن يتذرع بها الكيان الإسرائيلي لشنّ عملية عسكرية يذهب البعض باتجاه توصيفها بأنها اجتياح قد يصل، وفق تقدير البعض، حتى الأولي، إن لم نقل أعمق من ذلك.

بطبيعة الحال، لا يخطئ المبعوث المصري في تقديره للخطر الإسرائيلي، وكذلك في تقديره للأهداف التي كانت دائماً تراود حلم الكيان الإسرائيلي. فرئيس حكومة الكيان يعبّر بشكل أو بآخر عن مشروعه في لبنان بأسلوب يستهدف من خلاله محو عار انسحاب "جيشه" المذلّ عام 2000  والهزيمة الإستراتيجية التي تكبّدها عام 2006، بالإضافة إلى اعتبار السيطرة الأمنية، إن لم نقل الاستيطان في الجنوب اللبناني، هدفاً لا يتزحزح عنه وفق رؤيته العقائدية السوريالية لـ"إسرائيل الكبرى".

في هذا الإطار، تُطرح أمام المتابع إشكاليات عديدة تلعب دور المتغيّر المؤثّر على هذا الواقع أولها الموقف اللبناني الرسمي والسياسي، وثانيها نتائج العدوان الأخير الذي انتهى إلى اتفاق 27 تشرين الثاني/نوفمبر، وآخرها الدور العربي الذي من المُفترض أن يكون المؤثر الأساسي في أي واقع قد تؤدي إليه التجاذبات الحالية التي تحيط بالجبهة اللبنانية التي باتت تشكل في العقل العربي والغربي والإسرائيلي ساحة أساسية لناحية تأثيرها في ترتيبات المنطقة في المرحلة المقبلة.

فمن ناحية الموقف اللبناني الرسمي الذي يمكن اعتباره حاسماً في أي توجّه مستقبلي لإدارة الصراع أو ترتيبات الحل في المرحلة المقبلة، يمكن اعتبار الانقسام السياسي الحاصل على مستوى توصيف العدوان الإسرائيلي ذا تأثير سلبي على موقع لبنان التفاوضي، إذ يظهر رئيس الجمهورية وقائد الجيش في موقع الملزم بإدارة مواجهة ذات بعدين: الأول يتعلق بمواجهة الضغوط الإسرائيلية والأميركية التي تستهدف ببساطة جر لبنان إلى أكبر قدر من التنازلات في موضوع السيادة وحق لبنان في تحرير أرضه.

أما الثاني فيتعلق بمواجهة ضغوط داخلية منسقة تستهدف تغيير المعادلات الداخلية بما يلغي أي إمكانية لتطوير النظام السياسي مستقبلاً لناحية تعديل قانون الانتخاب، وتخطي عقدة التوازن الطائفي الذي لم يعد يراعي بالمطلق معيار المساواة في التمثيل، أو محاربة الفساد المانع لقيام دولة حديثة بما تحمله هذه الدولة من معان.

في هذا الإطار، تتوافق الضغوط الخارجية مع تلك الداخلية، حيث يتفق الجميع على أن كسر المكوّن الحاضن للمقاومة في هذه المرحلة سيساعد في تأخير أي مراجعة مستقبلية لطبيعة النظام السياسي. فالنجاح في كسر هذه الحاضنة سيجعلها منبوذة، أو على الأقل مهمشة في دوائر القرار اللبناني، وسيمنع عليها مجرد التفكير في أي تحرك شعبي على الأرض قد تعتمده للضغط نحو تغيير المعادلات القائمة حالياً تحت حجة ارتباطها بمشاريع خارجية مفترضة يرفضها الكيان الإسرائيلي، وكذلك الولايات المتحدة الأميركية.

أما بالنسبة إلى المتغير الثاني المرتبط بنتائج العدوان على لبنان، فالواضح أن التوجه الدولي والداخلي المناوئ للمقاومة يستهدف التركيز على الضرر الذي أصاب المقاومة وبيئتها الحاضنة من أجل تكريس فكرة الهزيمة في الوعي الجماعي المقاوم، من دون أي إشارة إلى ما حققته المقاومة من إنجازات كان أهمها استعادة المقاومة فعالية قدرتها الصاروخية، خصوصاً في الأيام الأخيرة، بالإضافة إلى منع "الجيش" الإسرائيلي من التوغل في القرى الجنوبية وبقائه على الحافة الأمامية في القرى المحاذية للشريط، بالإضافة إلى محاولة القفز فوق قوة العقيدة القتالية للمقاومين، الذين أظهروا استماتة في المواجهات التي أدت إلى إلحاق خسائر غير قليلة في الجنود والآليات. فرغم الإطباق الجوي وكثافة النيران، لم يتمكن الكيان من تثبيت قواته خلال 66 يوماً في أي نقطة حاسمة إستراتيجياً في الجنوب.

أما عن الهدف الذي تستهدفه هذه المنظمة الإعلامية من وراء تكريس فكرة الهزيمة، فيمكن القول إنها تشكل وفق هؤلاء مدخلاً لتسليم لبنان بعدم امتلاكه أياً من أدوات القوة التي قد تساعد في تحقيق لبنان لأدنى مقومات السيادة وتحقيق هدف تحرير الأرض. فالمطلوب وفق هؤلاء دخول لبنان في مفاوضات محسومة النتائج سلفاً لناحية الاستسلام لفرضية لبنان الضعيف الذي لا يملك إلا الخضوع لمتطلبات الكيان الأمنية والسياسية.

أما عن الدور العربي الذي أُوكل إلى مصر في هذه المرحلة، فثمة إشكالية تتعلق بمنطلق هذه الوساطة إذ إنها لا تمثل انعكاساً لموقف عربي يستهدف الحفاظ على لبنان وفق صيغة ردع الكيان الإسرائيلي الساعي إلى التمدد في أراضيه.

فالواقع أن الوساطات العربية في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد "طوفان الأقصى"، قد باتت محصورة في إطار العمل على تنفيذ الأجندة الأميركية التي توافق في أهدافها النهائية المرتكزات الأمنية والاستراتيجية الإسرائيلية. فالواقع يظهر أن هذه الوساطات قد تحوّلت في مفهومها الضمني من منتجة لمعادلات وحلول إلى مجرد أداة تنقل الرسائل وتستهدف علناً تنفيذ ما يطلبه الأميركي.

فالعنوان الأبرز الذي تصدر ما حمله وزير الخارجية المصري إلى اللبنانيين كان يتمحور فقط حول التهديدات الإسرائيلية والأميركية، وما يمكن أن ينتظر اللبنانيين من حصار وتهديد بإسقاط مقومات الدولة، اقتصادياً وعسكرياً، في حال رفض الخضوع للإملاءات. في هذا الإطار، تكمن إشكالية الواقع العربي مع لبنان في تقدير يفترض عدم نضوج الواقع السياسي والشعبي اللبناني حتى يصبح قادراً على استنساخ تجربة النظام الرسمي العربي الذي بات متقبلاً لشطب قضية الحقوق العربية ولدور الكيان المركزي في المنطقة. 

في هذا الإطار، تكمن إشكالية الموقف الرسمي اللبناني في عدم تمكنه حتى هذه اللحظة من تحقيق توافق دولي وقناعة عربية حول فكرة أن ما يستهدف الكيان تحقيقه في لبنان لن يؤثر فقط على موقع لبنان في المعادلات الإقليمية لناحية انحيازه إلى الطرف الأميركي أو مهادنة الكيان، وإنما سيؤثر على أصل فكرة وجود الكيان اللبناني.

فالذهاب نحو تسوية إقليمية عنوانها القفز فوق رؤية جامعة لطيف لا يمكن استثناؤه في المعادلات الداخلية، قد يضرب صيغة العيش المشترك المهزوزة بفعل مشروع فتنوي فرض إيقاعه على لبنان منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

وإذا عدنا إلى تاريخ لبنان الحديث، فقد كان معروفاً أن لبنان لا يخرج عن إطار كونه متأثراً بالواقع الإقليمي، إذ إنه كان وما زال يشكل مؤشراً واقعياً لواقع المنطقة والإقليم.

وعليه، يجب في هذا الإطار أن تلتزم الوساطة العربية، الحريصة على لبنان كما تدّعي، أولاً بالدور الواجب عليها القيام به بفاعلية تسمح لها بفرض تسويات تراعي مصلحة لبنان، وتجعل منه نموذجاً يمكن البناء عليه لتكريس نموذج يؤدي دوراً في توازن القوى الإقليمي الذي يجب أن يؤدي في نهاية المطاف إلى ردع الكيان الإسرائيلي، ومنع تحقيقه مشروع "إسرائيل الكبرى" الذي لن يحترم سيادة أي دولة عربية مهما كانت بعيدة عن حدود فلسطين.