متى يتبدّد وهم "إسرائيل" بانتصار في لبنان؟

هل يمكن لجولة من الانتصار التكتيكي أن تحمل "إسرائيل" إلى حالة النشوة المفرطة التي صدّرتها، تحديداً بعد استشهاد سماحة السيد نصر الله؟ 

0:00
  • ما زالت العناصر القاتلة للحلم الإسرائيلي بالانتصار تعمل بفعّالية.
    ما زالت العناصر القاتلة للحلم الإسرائيلي بالانتصار تعمل بفعّالية.

لا يمكن إنكار الضربات المؤلمة التي تعرّضت لها المقاومة في لبنان خلال الأسابيع الماضية؛ فاغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله إلى جانب عدد من القياديين الكبار هو بمثابة الزلزال بالنسبة إلى الحزب وبيئته الحاضنة ومؤيّديه ومحبّيه، ولكن الموت ليس مصيراً حتمياً لكل من عايش الزلزال وارتداداته، وهذا ما اختصره الشهيد، سماحة السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير "هذه الضربة الكبيرة لم تسقطنا ولن تسقطنا".

منذ بداية طوفان الأقصى، تعرف "إسرائيل" جيداً أن المواجهة الميدانية مع حزب الله، لها تكاليفها الباهظة، ولو كان لديها أي تصوّر آخر، لبدأت غاراتها الجنونية الواسعة على لبنان، منذ الثامن من أكتوبر، عندما أعلن لبنان كجبهة إسناد لغزة. 

دفع الإدراك العسكري الإسرائيلي لتكلفة المواجهة الميداينة مع حزب الله إلى البحث عن أدوات أخرى لإرهاق الحزب قبل بدء المواجهة، وكان العنوان العريض للبحث هو العمل على إرباك التحكّم والسيطرة من خلال تفجيرات البيجر واستهداف أكبر عدد ممكن من القيادات، لغاية خلق فراغ في القيادة، يتمدّد بسرعة ويعطّل سرعة اتخاذ القرار، ويشغل الحزب في إعادة الهيكلة على حساب المتابعة الميدانية. 

ولكن، هل يمكن لجولة من الانتصار التكتيكي أن تحمل "إسرائيل" إلى حالة النشوة المفرطة التي صدّرتها، تحديداً بعد استشهاد سماحة السيد نصر الله؟ 

لا يبدو الأمر كذلك، ولا سيما أن العناصر القاتلة للحلم الإسرائيلي في الانتصار ما زالت حاضرة.

أولاً: النزوح، يستمر ويتسع 

انطلق العدوان الإسرائيلي بشكل مكثّف وقوي تحت عنوان إسرائيلي عريض "إعادة مستوطني الشمال إلى منازلهم"، فالمعلومات تشير إلى إفراغ 40 مستوطنة إسرائيلية من المستوطنيين على وقع ضربات حزب الله ونزوح نحو 80 ألف إسرائيلي إلى مناطق الوسط حيث يعيشون في الفنادق، وذلك منذ الثامن من أكتوبر الماضي يوم قرّر حزب الله إسناد غزة. 

من الجدير بالذكر هنا، أنّ أرقام النازحين من المستوطنين الإسرائيليين، هي أيضاً تخضع لمنطق الرقابة العسكرية الصارمة للاحتلال، والتي تخفي من جملة ما تخفيه، الأرقام الدقيقة لهذا النزوح. ففي الوقت الذي تخفّف فيه أرقام مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي INSS إلى 68 ألف مستوطن نازح من الشمال، تشير تقارير أخرى، ومن ضمنها الغربية، إلى تجاوز عتبة الـ 90 ألفاً، والرقم بطبيعة الحال معرّض للازياد مع اتساع دائرة النيران التي أحدثتها المقاومة، تحديداً خلال الأيام التي تلت استشهاد السيد نصر الله. 

ويمكن القول إن الصواريخ بعد العدوان الإسرائيلي الواسع على لبنان لم تعد تقتصر على شمال فلسطين المحتلة، إذ إنها تصل إلى حيفا و"تل أبيب" وربما ما بعدهما في المقبل من الأيام، ما يعني بأنّ دائرة النزوح ستتوسّع بلا شك. وإذا كانت المبادرات الأهلية والمحلية من اللبنانيين هي التي طوّقت أزمة النزوح واحتضنت النازحين، فإن "إسرائيل" تتكئ على ميزانيتها الخاصة التي بدأت تتململ بسبب التكاليف الضخمة لاحتواء الأزمة. 

ثانياً: هل يفرغ خزّان الصبر في المجتمع الدولي؟

باستثناء الولايات المتحدة الاميركية وعدد من دول الاستعمار التقليدي، وفي مقدّمتها المملكة المتحدة، لم نجد دولة تؤيد "إسرائيل" في حربها على كل من غزة ولبنان، وربما تظهر الصورة واضحة في محاضر جلسات محكمة العدل الدولية، التي كان يوجد فيها القاضي الإسرائيلي أهارون باراك وحيداً في التصويت (قبل أن يستقيل لأسباب قال إنها شخصية وعائلية)، أو برفقة الأوغندية جوليا سيبوتيندي.

صور القتل الجماعي وإلقاء آلاف الأطنان من المتفجرات على رؤوس المدنيين لن تمحى من الذاكرة الجمعية للعالم كله. وأي "انتصار" مغمّس بدم المدنيين لن ينظر إليه إلا على أنه سقطة أخلاقية وإنسانية لا يمكن القفز فوقها، ولعل واقعة تفجير البيجر واللاسلكي في لبنان أفضل مثال على ذلك. ومع ذلك فهي ليست سوى محطة إجرامية أضيفت الى سجل "إسرائيل" الإرهابي الذي أصبح موثّقاً في المحكمة الجنائية الدولية كما محكمة العدل الدولية، ومهما طالت الحرب فإن حتمية المحاسبة هذه المرة لا بدّ منها، وستكون "إسرائيل" بلا شك أمام "تسونامي دبلوماسي سياسي" كان قد حذر منه رئيس الوزراء الإسرائيلي السباق إيهود باراك عام 2011. 

ربما يئس الكثيرون في العالم من جدوى المسارات القانونية في لجم "إسرائيل" عن إجرامها، فالولايات المتحدة التي استخدمت الفيتو 83 مرة في تاريخها في الأمم المتحدة، أهدت 42 منها لـ "إسرائيل". ولكن لو نظرنا إلى مسار التصويت في الهيئات الدولية، وحتى داخل إطار مجلس الأمن، منذ السابع من أكتوبر إلى يومنا هذا، للاحظنا تحوّلات كثيرة مثّلت تحدياً حقيقياً لـ"إسرائيل"، ومعها واشنطن، وهي مرشّحة للتصاعد في المرحلة المقبلة من الحرب والعدوان على لبنان. 

إن أزمة السمعة الدولية خلال الحرب الدائرة، لا تطارد "إسرائيل" وحدها، وإنما تطارد المنظومة الغربية بأكملها، وما ميل الولايات المتحدة إلى الإفراط في تصريحات المسؤولين بشأن ضرورة وقف إطلاق النار، إلا جزء من الشعور بالأزمة في هذا الملف، وما الإدعاءات البريطانية في تعليق إرسال السلاح إلى "إسرائيل" أو سحب شكواها الخاصة الداعمة لـ "إسرائيل" في المحكمة الجنائية الدولية، إلا تعبير عن هذه الأزمة.

ثالثاً: هل يصمد الاقتصاد أكثر 

أغلب التقارير الإسرائيلية تشير إلى تراجع الشيكل والبورصة منذ بدء العدوان الموسّع على لبنان بشكل محدّد، في مقابل ارتفاع نسبة التحويلات المالية من "إسرائيل" إلى الخارج. على صعيد القطاعات الأخرى أصبح معلوماً أن  المناطق الزراعية في محيط قطاع غزة يمكن وصفها بالقاحلة، أما المصانع في الشمال فهي مقفلة في حين أن شركات الهاي تيك تهم بالمغادرة. وما إن تضع الحرب أوزارها ستكون الحكومة الإسرائيلية أمام تحدي إعادة الإعمار ودفع التعويضات وترميم "الجيش" بشرياً وعسكرياً. 

في اليوم الذي نفّذت فيه "إسرائيل" عمليتها الإجرامية، واغتالت السيد حسن نصر الله، كانت وكالة موديز للتصنيف الائتماني تستعدّ لنشر تقريرها عن الجدارة الائتمانية لـ"إسرائيل" وحالة عدم اليقين التي تمرّ بها، وتحمل "إسرائيل" مجدداً خطوتين إلى الأسفل منA2  إلى BAA، الأمر الذي يعني ارتفاع أقساط الفائدة على سداد الدين، مما يعني الحاجة إلى الضغط أكثر على دافعي الضرائب، المتضرّرين أساساً من إغلاق منشآتهم الاقتصادية بسبب الحرب. 

منذ أن وصل الليكود إلى السلطة في "إسرائيل" عام 1977 بقيادة مناحيم بيغين إلى لحظة استبداد نتنياهو بالسلطة، كان الاقتصاد الإسرائيلي يعتمد أكثر وأكثر على البورصات والأسهم، لذلك ليس غريباً على الإطلاق، أن تقع رقبته في قبضة توقّعات المستثمرين خلال الحروب الطويلة.

رابعاً: أثر الاغتيالات وارتداداتها 

انتشت "إسرائيل" بعد سلسلة ناجحة من الاغتيالات كانت قد نفّذتها على الأراضي اللبنانية كما خارجها. ولكن وبالعودة إلى التاريخ يمكن الجزم بأن اغتيالات القادة تحديداً لا ولم تحل دون استمرار حركات المقاومة، إنما أحياناً تزيدها إصراراً على مواصلة الفعل بهدف الثأر للرمز. لذلك تبقى أقرب إلى أهداف تكتيكية منها إلى أهداف استراتيجية في حرب الوجود .

يقول الكاتب بلال صعب في موقع شاثام هوس، "إن استمرار "إسرائيل" في ضرب حماس وحزب الله ـــــ بالرغم أنه مفيد سياسياً لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ـــــ إلا أنه لن يعالج أياً من التحديات التي تواجهها "تل أبيب". بل على العكس من ذلك، فإن اعتماد "إسرائيل" على الأداة العسكرية وحدها، كما تميل إلى أن تفعل دوماً، لن يجعلها أكثر أماناً. إن عقوداً، وليس مجرد سنوات، من المواجهة مع هذه المنظّمات المسلحة الصامدة والعازمة يمكن أن تشهد على ذلك.

خلاصة القول، بعد النشوة الإسرائيلية التي أحبطتها ليلة جديدة من الصواريخ البالستية الإيرانية، ما زالت العناصر القاتلة للحلم الإسرائيلي بالانتصار تعمل بفعّالية. لننتظر ونرَ. 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.