محور شرق أفريقيا الاستوائية: قراءة جيوسياسية وجيواستراتيجية
ليست المبادرة مجرد مشروع سياسي،بل محاولة استراتيجية لإعادة ترتيب المشهدين الجيوسياسي والجيواستراتيجي لشرق أفريقيا في زمن تتصاعد فيه المنافسات الدولية.
-
تتجه أفريقيا نحو صراع عالمي على الموارد والموانئ والممرات البحرية.
تمر منطقة شرق أفريقيا بتحوّلات جذرية منذ عقد من الزمان، نجمت هذه التحوّلات عن تفاعل معقد بين الصراعات الداخلية في دول هذه المنطقة، والتنافس الدولي عليها، فضلاً عن الصعود المطرد لمشاريع إقليمية قد تعيد تلك العناصر هندسة الأوضاع فيها على أسس جيوسياسية وجيواستراتيجية جديدة،خصوصاً أن الإقليم يتمتع بإطلالة مهمة على المحيط الهندي، ويمثل نقطة ارتكاز للتفاعلات بين القرن الأفريقي ووسط أفريقيا والساحل.
وفي هذا المناخ، بادر الرئيس اليوغندي يوري موسيفيني إلى طرح مبادرة لبناء محور "شرق أفريقيا الاستوائية"، كإطار فرعي داخل منظومة شرق أفريقيا " EAC"، يستهدف صياغة ترتيبات أمنية واقتصادية جديدة، تتجاوز حدود التنسيق التقليدي.
أطلق موسيفيني هذه المبادرة في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، ودعا عبرها إلى تشكيل تحالف فيدرالي عسكري يضم أوغندا وكينيا وتنزانيا والصومال ورواندا وبوروندي وجنوب السودان والكونغو الديمقراطية، بهدف تعزيز الأمن الإقليمي والممرات البحرية ومنع التدخلات الأجنبية. وجاءت هذه الدعوة خلال برنامج إذاعي من قصره الرئاسي، مؤكداً أن الأمن في المحيط الهندي قضية استراتيجية، وأن الاتحاد العسكري سيكون قوة عسكرية قوية وذات نفوذ كبير. وأوضح لاحقاً أن المبادرة تهدف إلى تعزيز التعاون الإقليمي وتخفيف العبء على الدول الساحلية، وليس تبني سياسة العداء تجاه أي دولة، رغم الجدل الذي أثارته تصريحاته حول حق أوغندا في الوصول إلى الموانئ.
دوافع مبادرة موسيفيني
تتمثل دوافع مبادرة الرئيس الأوغندي في مستويات مترابطة عديدة، من بينها:
- صناعة دور وموقع أوغندي على المستوى الإقليمي، بخاصة في ظل خفوت مكانتها وبروز الدور الكيني منذ بداية الألفية الجديدة، وفي ظل المكانة الإقليمية المتنامية لإثيوبيا وتراجع الدور السوداني، والتوسع في منظومة شرق أفريقيا " EAC"، وبعد إعادة الحياة إلى الايغاد " IGAD".
- بناء إطار أمني يواجه التهديدات العابرة للحدود، مع اتساع دائرة الاضطرابات الأمنية والسياسية في القارة الأفريقية عامة ودول الساحل والصحراء خاصة، وبشكل خاص مع تمدد الشبكات المسلحة من ليبيا جنوباً، ومن دول الساحل الغربي.
- تعزيز القدرة على الوصول إلى المحيط الهندي، وهو هدف إستراتيجي طالما سعت أوغندا لتحقيقه باعتبارها دولة حبيسة، تعتمد على كينيا وتنزانيا في تجارتها البحرية. لكن المبادرة توسّع خيارات كمبالا لتأمين مسارات بديلة نحو المحيط عبر الصومال، بما يقلص اعتمادها على دولة واحدة ويمنحها مرونة استراتيجية واقتصادية.
هندسة بناء المحور بين الاستيعاب والاستبعاد
يعتمد موسيفيني في مشروعه على هندسة إقليمية انتقائية، تسعى لبلورة كتلة فرعية داخل "EAC" تضم ثماني دول: أوغندا، كينيا،تنزانيا،رواندا، بوروندي، جنوب السودان،الكونغو الديمغراطية، والصومال. ويرتكز هذا الخيار على بناء منظومة متجانسة سياسياً، وأكثر قابلية للقيادة، وتتفادى إدخال قوى ذات أوزان قد تعيد تشكيل التوازنات أو تفرض هويات حضارية أو خيارات استراتيجية لا تخدم أهداف هذا المشروع، وبذلك يمهد موسيفيني لكتلة يمكن لأوغندا أن تلعب فيها دوراً مهيمناً من ون منافسين كبار.
وتتصدر الصومال رغم هشاشتها السياسية والأمنية، قائمة الدول التي اختارها موسيفيني نظراً لما تمنحه من مزايا استراتيجية، فهي توفر منفذاً بحرياً حيوياً على المحيط الهندي وخليج عدن، يتيح للدول الحبيسة وفي مقدمتها أوغندا، مساراً إلى البحر، وتنشئ فرصاً لشراكات اقتصادية وأمنية داخل المنظومة المقترحة. كما يمثل الصومال نقطة ارتكاز أمنية مهمة بفضل اعتماده الفعلي على قوات” EAC”، وبحكم مشاركة أوغندا الطويلة في بعثات "AMISOM/ATMIS"، ما يمنح كمبالا قدرة على تعزيز حضورها العسكري من دون أعباء لوجستية كبيرة. وإلى جانب ذلك، يشكل الصومال ورقة جيوسياسية حساسة في موازنة الطموحات البحرية الإثيوبية، إذ يحدّ ضمه إلى المحور من قدرة أديس أبابا على توسيع حضورها البحري أو بناء نفوذ مستقل على الامتداد الساحلي.
وفي السياق، تكتسب بقية الدول المختارة معناها ضمن منظومة متكاملة؛ فكينيا شريك استراتيجي لضمان الموانئ وحماية المصالح البحرية، وتنزانيا توفر مساراً بديلاً نحو المحيط الهندي وتدعم التكامل الاقتصادي-اللوجستي، بينما تعزز رواندا ثقل المجموعة داخل" EAC" بحضورها الأمني والاقتصادي الفاعل، وتُعدّ بوروندي وجنوب السودان امتداداً طبيعياً للنفوذ الأوغندي، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وفي الوقت ذاته، يمكّن الموقع الحساس لجنوب السودان أوغندا من ترسيخ نفوذها في عمق الإقليم وتوسيع حضورها الاستراتيجي.
في المقابل، تعكس الدول التي استبعدت من المنظومة اعتبارات دقيقة تتعلق بتوازن القوى والهوية الإقليمية وطبيعة التهديدات المحتملة، فإثيوبيا، بكتلتها السكانية وجغرافيتها واحتياطياتها العسكرية، تمثل قوة ضخمة لا تقبل بدور ثانوي، الأمر الذي يهدد توازن المحور ويجعلها بحكم طبيعتها قوة مهيمنة تلقائياً. كما تُعد منافساً مباشراً لكينيا في المجال البحري، إذ ترى نيروبي أن أي توسع إثيوبي نحو البحر يضرب مصالحها الاقتصادية، ويحوّل الشراكة المحتملة إلى حالة تنافس. إضافة إلى ذلك، فإن مطالبة أديس أبابا بمنافذ بحرية قد تشرذم القاعدة السياسية للمنظومة وتقوّض مصالحها المشتركة، فضلاً عن اختلاف توجهاتها الاستراتيجية مع” EAC" بما يفتح الباب أمام اصطدام دائم في ملفات التجارة والأمن البحري.
أما السودان، فاستبعاده لا يعود إلى غياب عناصر القوة، بل إلى وفرتها؛ إذ يمتلك بحكم ثقله التاريخي والمعنوي قدرات ناعمة مؤثّرة في الفضاء الأفريقي، مستنداً إلى رصيده الحضاري كدولة عربية مسلمة ذات دور معروف في نشر الحضارة العربية الإسلامية في أفريقيا. وتمكّنه هذه الخصائص، إضافة إلى صلاته الراسخة مع بعض دول المحور، من لعب دور قيادي قادر على منافسة الدور الأوغندي نفسه، وهو ما لا تقبل به كمبالا، إذ إن هذا الدور المحتمل قد يطغى إذا توقفت الحرب واستعاد السودان استقراره.
وتأتي إريتريا في دائرة الاستبعاد نتيجة عقيدتها السيادية الانعزالية في السياسة الخارجية، التي تقوم على الحلول الوطنية وعدم الاندماج في محاور تقودها أطراف أخرى، فضلاً عن التوترات التي تجمعها بإثيوبيا والصومال، والتي قد تحوّل أي تحالف إلى ساحة صراع إقليمي داخلي.
أما جيبوتي، فإن تحوّلها إلى منصة مكتظة بالقواعد العسكرية للقوى الكبرى يجعل انضمامها إلى منظومة تسعى لخفض التدخلات الخارجية أمراً متعارضاً مع مصالح تلك القوى، ومثيراً لردود فعل دولية مباشرة لا يرغب موسيفيني في تحمل تبعاتها.
يعكس مشروع موسيفيني إدراكه لأهمية الممرات البحرية والأمن الإقليمي في شرق أفريقيا، من خلال بناء كتلة فرعية داخل" EAC" تمنح أوغندا مركز نفوذ سياسي وأمني واقتصادي، مع احتواء الفاعلين الذين قد يهددون قيادة المحور.
ويستثمر المشروع المواقع الاستراتيجية للدول الأعضاء،خصوصاً الصومال وجنوب السودان والكونغو الديمقراطية،مع اعتبار اندماج الصومال عاملاً حاسماً لفعالية المنظومة. وفي حال نجاحه، يمكن للكتلة الجديدة أن تصبح منصة لإعادة تشكيل التفاعلات الإقليمية، سواء كمركز استقرار أو ساحة صراع، وفق مسارات مثل الحرب في السودان، التوسع البحري الإثيوبي، وقدرة" EAC" على التماسك، بما يمنح أوغندا نفوذاً مركزياً ويعزز التكامل الإقليمي.
ما تأثير المبادرة على بنية الإقليم؟
يعيد المشروع تشكيل مركز الثقل داخل” EAC”"، ويمنح أوغندا وكينيا قدرة أكبر على إدارة المخاطر الأمنية الإقليمية، ويحدّ من الطموحات البحرية الإثيوبية، ويفتح ممرات اقتصادية حيوية من الكونغو إلى المحيط الهندي، ما يجعل شرق أفريقيا الاستوائية محوراً رئيساً لتجارة المعادن الاستراتيجية والمواد الخام.
تحديات أمام المشروع
يواجه المشروع تحديات عدة قد تعرقل تحقيق أهدافه، أبرزها التوترات الداخلية بين بعض دول المحور التي قد تعيق اتخاذ قرارات موحدة، والتأثيرات الناتجة عن التدخلات الخارجية من قوى منافسة مثل الصين وأميركا والاتحاد الأوروبي وتركيا، كما يشكل استمرار الصراعات في الفضاء الأفريقي وبشكل خاص في محيط دول المحور الجديد تهديداً لأمنه ولممراته البحرية وطرقه البرية. إلى جانب ذلك، تأتي قدرة الدول الأعضاء على تعزيز قدراتها الاقتصادية وتطوير بنيتها التحتية، لا سيما في الموانئ وشبكات النقل، وتطوير نظمها القانونية، وسياساتها الاقتصادية، كتحديات كبيرة في هذا المسار .
يمثل مشروع موسيفيني لبناء محور"شرق أفريقيا الاستوائية" أحد أكثر المشاريع الإقليمية جرأة وتأثيراً في السنوات الأخيرة، إذ يعكس سعيه لإعادة تعريف الأطر الإقليمية خارج ثنائية "IGAD/EA" التقليدية، وبناء كتلة منسجمة تواجه التهديدات الخارجية، تؤمن الممرات البحرية، وتعيد هندسة التوازنات مع إثيوبيا والدول الحبيسة في القرن الأفريقي.
ليست المبادرة مجرد مشروع سياسي، بل محاولة استراتيجية لإعادة ترتيب المشهدين الجيوسياسي والجيواستراتيجي لشرق أفريقيا في زمن تتصاعد فيه المنافسات الدولية، وتتجه القارة نحو صراع عالمي على الموارد والموانئ والممرات البحرية، مع الأخذ في الاعتبار التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية التي قد تواجه تنفيذ هذا المحور.