مصر وفلسطين: حين تصبح الجغرافيا قدرًا والتاريخ شاهدًا (2من 2)
مصر التي شكّلت، تاريخيًا، العمود الفقري في معادلة فلسطين والمشرق، تجد نفسها اليوم تؤدي دورًا محدود التأثير، أقرب إلى إدارة الأزمة من قيادتها، وإلى رد الفعل أكثر من صوغ الفعل.
-
تراجع الحضور المصري... بين ثقل الدور وضغط اللحظة.
في الجزء الأول، فتحنا خريطة الذاكرة على خطوط الدم والجغرافيا التي جمعت مصر بفلسطين منذ آلاف السنين، ورصدنا كيف بدأ الخيط يتمزق حين انزاحت البوصلة، فتراجعت القضية من قلب الأمن القومي إلى هامش الخطاب، وتحوّل العمق الفلسطيني إلى ملفٍ يُدار من مسافة.
رأينا كيف ترك هذا التراجع فراغًا خطيرًا على البوابة الشرقية، فراغًا يتسابق لملئه كل من يطمع في تقليص دور مصر واقتطاع مجالها الحيوي.
أما هنا، في الجزء الثاني، فنمضي إلى قلب العاصفة؛ إلى غزة التي كانت درع مصر فأصبحت في بعض العيون عبئًا، وإلى سيناء التي يراد لها أن تكون معبرًا للتهجير بدل أن تبقى سورًا للوطن. نقرأ كيف يتقاطع هذا الانزياح مع المشروع الصهيوني في أخطر صوره: عزل غزة عن مصر، وقطع شريان المشرق عن قلب القاهرة، في معركة لا تحسمها الدبابات وحدها، بل تحسمها أيضًا اللغة التي نصف بها أوطاننا، والوعي الذي نصوغ به أجيالنا.
غزة من العمق إلى العبء
في قلب هذا التحوّل الخطير، انزلقت غزة – في بعض الخطابات الرسمية والإعلامية – من كونها عمقًا استراتيجيًا لمصر إلى عبء أمني وسياسي. فهي اليوم محاصرة من العدو، ومُدانة من بعض ذوي القربى، يُنظر إليها كـ"قنبلة سكانية" تهدد الاستقرار، و"ملف معقد" يستهلك الجهد الدبلوماسي، ومصدر إزعاج إعلامي متكرر، لا كمقدمة تحرر أو بوابة للدفاع عن سيناء.
هذا الانزياح في الرؤية أخرج غزة من الخريطة الرمزية للأمن القومي المصري. تحولت من "الرقبة التي تمر منها أنفاس القاهرة إلى الشام"، كما وصفها المؤرخ عبد الرحمن الرافعي، إلى "منطقة خارجة عن السياق" تُدار بالحواجز والتنسيق الأمني لا بالدعم والانخراط الفعّال.
والأخطر أن هذا التصور يلتقي – موضوعيًا – مع أهداف الاحتلال في عزل غزة، جغرافيًا وديموغرافيًا، بحيث تصبح حاجزًا بين مصر والمشرق بدل أن تكون جسرًا يربطهما. إن النظر إلى غزة بوصفها عبئًا يبدد الطاقة السياسية والأمنية، ويزرع الوهم بأن مصر يمكن أن تكون آمنة وهي تدير ظهرها لبوابتها الشرقية.
تراجع الحضور المصري... بين ثقل الدور وضغط اللحظة
ما يجعل الانزياح في البوصلة أكثر خطورة أن الدور المصري، رغم بقائه حاضرًا في الصورة، يبدو أقل بكثير من حجمه الطبيعي والمنتظر في لحظة بهذه الحساسية. فمصر التي شكّلت، تاريخيًا، العمود الفقري في معادلة فلسطين والمشرق، تجد نفسها اليوم تؤدي دورًا محدود التأثير، أقرب إلى إدارة الأزمة من قيادتها، وإلى رد الفعل أكثر من صوغ الفعل.
يحدث هذا فيما تخوض غزة حرب إبادة ممنهجة، تترافق مع محاولات منظمة لدفع أهلها نحو التهجير القسري إلى سيناء، في إعادة إنتاج مروّعة لسيناريو النكبة، ولكن هذه المرة على مرمى البصر من البوابة الشرقية لمصر. والمفارقة أن هذه اللحظة تأتي بعد أن انحسر العنف المسلح في سيناء إلى حدوده الدنيا، وتلاشت إلى حد كبير المبررات الأمنية التي فُرضت باسمها سياسات الإغلاق والتشديد.
الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في ضعف الاستجابة، بل في السماح – عن قصد أو تحت ضغط التعقيدات – بإعادة تشكيل هوية سيناء ودورها الجيوسياسي، لتتحول من سور مصر الحامي إلى منطقة انتقالية لمهجّري غزة، في مشهد إن حدث، سيعيد رسم خريطة الأمن القومي المصري لعقود قادمة.
لقد كتب جمال حمدان بوضوح:
"سقوط فلسطين سقوط لسيناء، وسقوط سيناء هو سقوط لمصر."
لكن هذا التحذير، الذي يستحق أن يُكتب في مقدمة الدستور، يُدفن اليوم تحت عناوين مخاتلة من نوع "الترتيبات الإنسانية" أو "إدارة الأوضاع الميدانية" أو "ضبط الحدود"، فيما الجوهر هو محاولة كسر الرابط العضوي بين فلسطين وسيناء وتحويلهما إلى جزيرتين معزولتين يسهل التحكم بمصيرهما من الخارج.
من الاحتلال إلى الاختزال
التحوّل الأخطر لا يكمن في خرائط الجغرافيا وحدها، بل في خرائط الوعي التي يرسمها الخطاب. ففي جانب من الخطاب الرسمي والإعلامي، جرى إنزال الاحتلال من موقع الفاعل الأول إلى مجرد ظلّ باهت في خلفية المشهد، بينما تقدّمت إلى الواجهة روايات فرعية عن "الخلافات الفلسطينية" و"الانقسام الداخلي"، وعن "الدور المصري كوسيط" — لا في مصالحة وطنية فحسب، بل أيضًا في جولات التفاوض غير المباشر بين فصائل المقاومة وقادة الكيان.
وهنا تكمن الخطورة: إذ تُقدَّم المواجهة التاريخية مع قوة احتلال استيطانية على أنها خلاف قابل للتسوية بين طرفين متكافئين، ويتوارى جوهر القضية خلف مصطلحات دبلوماسية باردة. بهذا الاختزال، تُفرَّغ فلسطين من معناها التحرّري، وتتحوّل من قضية وجودية إلى ملف إداري تتناوله المكاتب المغلقة وتقارير الوسطاء، وتُقصى غزة عن القدس كما يُقصى العمق العربي لمصر عن مجالها الطبيعي في المشرق.
هذا الانزلاق ليس بريئًا، بل هو جزء من عملية أوسع لإعادة صوغ وعي الأجيال، بحيث تنشأ على مسافة باردة من فلسطين، غير مدركة أن سقوطها يعني انكشاف مصر، وأن تهجير أهلها يعني زعزعة جدار سيناء.
غزة وسيناء... جبهة واحدة
في مواجهة هذه المحاولات، تبدو غزة وسيناء وكأنهما خط دفاع واحد في معركة مفتوحة. فما يجري في غزة ليس شأنًا إنسانيًا معزولًا، بل اختباراً مباشراً لقدرة مصر على حماية عمقها الاستراتيجي وهويتها الوطنية.
الخطر لا يكمن في غزة كما يروّج بعض الخطاب الرسمي، بل في ما يُراد لغزة أن تتحوّل إليه: منطقة عازلة، مفرّغة ديموغرافيًا، ومعزولة جغرافيًا، تُستبدل فيها الحياة بالجدران والأسلاك، لتصبح حاجزًا بين مصر والمشرق بدل أن تكون جسرًا للتواصل والحضور.
وإذا كان الاحتلال يسعى إلى هذا العزل بالسلاح والجدار، فإن بعض الخطابات العربية – بوعي أو بغير وعي – تسهم في ترسيخه، معنويًا ورمزيًا، عبر التعامل مع فلسطين كعبء أمني أو كلفة سياسية، بدل أن تُرى كما كانت دائمًا: خط الدفاع الأول عن مصر وعمقها العربي.
من قضية تحرر إلى أداة تفكيك
لفهم هذا التحوّل، يجب النظر في جوهر المشروع الصهيوني. وكما أوضح عبد الوهاب المسيري، فالصهيونية "مشروع استيطاني إحلالي وظيفي" هدفه تفكيك المنطقة وتحويلها إلى فسيفساء من الطوائف والكيانات المعزولة التي تخدم المركز الإمبريالي.
من هذا المنظور، كان فصل مصر عن فلسطين هدفًا استراتيجيًا أصيلًا، لأن انقطاع مصر عن فلسطين يعني انكماش رؤيتها الاستراتيجية وفقدان عمقها التاريخي والثقافي، لتصبح دولة كبيرة على الخريطة لكنها صغيرة في المعادلة الإقليمية.
تحويل فلسطين من رمز للتحرر العربي إلى ورقة مساومة أو ملف أمني ليس مجرد تراجع سياسي، بل هو إعادة صوغ لوعي الأجيال القادمة على نحو يطبع الهزيمة في المخيال الجمعي، ويفصل بين الجغرافيا والهوية، بين الأمن والسيادة.
ما بعد الإدراك… ما العمل؟
استعادة البوصلة لا تقتصر على الشعارات أو بيانات التضامن، بل تتطلب إعادة فلسطين إلى قلب العقل الاستراتيجي المصري باعتبارها قضية أمن قومي من الدرجة الأولى. وهذا يعني أن ما يحدث في غزة لا يمكن عزله عن سيناء، وأن كل شبر يُفرغ هناك هو اختناق يتسلل إلى هنا.
لقد حذر عبد الناصر:
" فلسطين بوابة مصر الشرقية. وحين تُغلق هذه البوابة، نُطوّق من كل الجهات."
اليوم، ومع حرب الإبادة على غزة ومحاولات التهجير إلى سيناء، نحن أمام مشهد لا يحتمل الصمت. المطلوب هو انخراط فاعل يرفض تحويل غزة إلى منطقة عازلة أو ملف أمني، ويعيد اعتبار فلسطين كبوابة السيادة المصرية ومفتاح أمنها الاستراتيجي.
فلسطين في صلب المعادلة القومية
حين نقرأ الجغرافيا بعين التاريخ، ندرك أن فلسطين لم تكن يومًا "قضية عربية" بالمعنى العابر، بل مركز الجاذبية الذي يُختبر عنده صدق أي مشروع قومي. كل تراجع لموقعها كان يقابله تراجع في قوة العرب وانكسار في إرادة الفعل.
كما قال المسيري:
" فقدان فلسطين لا يعني فقط فقدان أرض، بل فقدان الاتجاه."
ارتباط مصر بفلسطين كان دائمًا علاقة تكامل وجودي لا مجرد تماس جغرافي. وكلما تقدمت حسابات الحياد والتهدئة على حساب القيادة والمواجهة، انكمش دورها وملأت الفراغ قوى أقل وزنًا وأضيق أفقًا.
البوابة التي لا تُغلق
غزة ليست شريطًا محاصرًا، ولا فلسطين قضية مؤجلة؛ إنهما المفصل الذي يتحدد عنده شكل المستقبل العربي. ما يُراد لغزة اليوم هو ما أُريد لفلسطين بالأمس: تفريغها من أهلها، واقتلاعها من جغرافيتها، وتحويلها إلى حاجز يفصل لا جسر يصل.
من يقبل أن تُغلق بوابة فلسطين يقبل أن تُغلق أبواب السيادة في عواصمنا. فمعركة فلسطين ليست حرب حدود، بل معركة وجود، وحين تُعزل فلسطين تنكمش مصر ويذبل المجال العربي.
إعادة فلسطين إلى قلب العقل العربي ليست عودة إلى الماضي، بل هي استرداد لشرط المستقبل. فمن دونها، سنعيش في ظل سيادات مُختزلة، وخرائط يرسمها الآخرون. فلسطين ليست عبئًا على مصر، بل عمقها، وليست كلفة على العرب، بل شرط بقائهم. ومن يفرّط في البوابة، لا يلومنّ إذا وجد الأسوار تحاصره من كل الجهات.