"السيادة الدينية الإسرائيلية" على الحرم الإبراهيمي

يشكل قرار نقل إدارة الحرم الإبراهيمي إلى مجلس ديني استيطاني تطوراً بالغ الخطورة في مسار التهويد الإسرائيلي. فهو لا يقتصر على تغيير إداري، بل يحمل دلالات سيادية ودينية تمس جوهر الصراع.

0:00
  • خلفية الصراع على الحرم الإبراهيمي.
    خلفية الصراع على الحرم الإبراهيمي.

في ظروف إقليمية بالغة التعقيد، تسعّر فيها "إسرائيل" عدوانها على قطاع غزة، وتتصاعد فيها التوترات الإقليمية في لبنان وسوريا، صادقت السلطات الإسرائيلية الأسبوع الماضي على قرار قضى بنقل الصلاحيات الإدارية والإشرافية على الحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل جنوبي الضفة الغربية، من بلدية الخليل الفلسطينية إلى "مجلس الحاخامية الدينية" التابع لمستوطنة "كريات أربع" المجاورة.

وقد وفّرت تلك الظروف -التي تسرّب تحت ستار عتمتها القرار الإسرائيلي- غطاءً تدثر ذلك القرار تحت دثاره، فانصرفت الأنظار عنه، وعن مخاطره، وأتاح فرصةً لتمرير القرار من دون أن يُنتبه له من قبل الأنظمة العربية والاسلامية، ومن دون أن يستثير الوعي الأخلاقي والحقوقي على المستويين الإقليمي والدولي.

ولئن جاء القرار الإسرائيلي في تلك الظروف الإقليمية، فإنه يجيء أيضاً في سياق متسارع من عمليات تهويد الأماكن المقدسة، ويعكس التوجهات الاستراتيجية الإسرائيلية نحو فرض "السيادة الدينية والسياسية" على الخليل، باعتبارها إحدى أكثر المدن حساسية من حيث الرمزية الدينية والتاريخية. 

خلفية الصراع على الحرم الإبراهيمي

تُعتبر الخليل من أقدس المدن الإسلامية بعد مكة والمدينة والقدس، وتُعد من أقدس المواقع الدينية في فلسطين التاريخية. وتحتضن الخليل الحرم الإبراهيمي الذي يرتبط بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، ويُعتقد أنه مكان دفنه مع زوجته سارة وعدد من الأنبياء. 

 أصبح الحرم الإبراهيمي مسرحاً للصراع منذ احتلال "إسرائيل" للضفة الغربية عام 1967، وتعمّق هذا الصراع بعد المجزرة التي نفذها المستوطن المتطرف "باروخ غولدشتاين" عام 1994، التي استشهد فيها 29 مصلياً فلسطينياً، وعلى إثرها قسّمت "إسرائيل" الحرم بين المسلمين واليهود، وفرضت إجراءات أمنية مشددة أثرت سلباً على الوجود الفلسطيني.

يشارك المسيحيون المسلمين في النظر إلى مدينة الخليل، إذ تحظى عندهم بالقدسية كذلك، ويُعتبر إبراهيم أبًا روحيًا في الإيمان المسيحي. ويزورها الحجاج المسيحيون عبر التاريخ، تكريماً لمقام الأنبياء وللصلاة في الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية التي تُدرج الحرم الإبراهيمي ضمن محطات الحج المسيحي.

 للحرم الإبراهيمي مكانة كذلك في الميثولوجيا الصهيونية، إذ تطلق عليه اسم "كهف المكفيلة"، وتضعه في المرتبة الثانية بعد القدس في مراتب الأماكن المقدسة، كما تعتبر الخليل "مهدًا لتاريخ بني إسرائيل"، وهذا الذي جعل السيطرة على الحرم والخليل أمراً مركزياً في منظور الفكر الصهيوني، تتبنّاه التيارات الدينية والقومية.

لهذا اُقيمت مستوطنة "كريات أربع" إلى جوار الحرم، كقاعدة متقدمة لتثبيت الحضور الرمزي والديني، وجُعلت منطلقاً لتهويد البلدة القديمة ولزيادة الوجود اليهودي فيها.

بعد مجزرة 1994، جرى تحصين المستوطنين، وتكريس تقسيم الحرم، وتحويله إلى مزار يهودي بقوة الاحتلال، تحت حماية قواته. وتُستغل الرمزية الدينية للموقع في الخطاب السياسي أثناء الحملات الانتخابية كما فعل نتنياهو وبن غفير وغيرهما في آخر انتخابات. 

يؤجج خطاب التيارات الدينية والعالمانية الصراع حول الحرم والمدينة، وزادت حدة الصراع بعد اتفاق أوسلو، الذي قسّم المدينة بين السلطة الفلسطينية و"إسرائيل" إلى قسمين ( H1و2H) وكرّس سيطرة الاحتلال على البلدة القديمة.

سياق القرار الإسرائيلي ودلالاته

يأتي القرار في مرحلة تصاعد فيها المدّ اليميني الديني داخل حكومة نتنياهو، وفي سياق تنفيذ مشروع تهويد فلسطين الذي هو في القلب من الرؤية الصهيونية، ويجيء بعد سلسلة من الخطوات التهويدية في القدس وعموم الضفة الغربية.

للقرار دلالات متعددة، فمن الناحية السياسية، يمثل تحدياً للإرادة الإقليمية ممثلة في الدول العربية والإسلامية، ويضرب القرار إسفيناً في قلب اتفاق أوسلو، ويضع السلطة الفلسطينية في أضيق الزوايا وأصعبها، ومن ناحية عقائدية، يحرم القرار المسلمين والمسيحيين من حق تاريخي ثابت وراسخ، ويُعيد إنتاج فكرة "الخليل التوراتية"، كجزء من النبوءات والأساطير الإسرائيلية.

دلالات هذا القرار في الجانب الأمني خطيرة؛ لأنه يعزز من قبضة المستوطنين على الحرم والمدينة، ويطلق أيديهم بصورة أكبر، ويضفي طابعاً دينياً على إجراءات أمنية عنيفة قد تتخذها سلطات الاحتلال في أي وقت، وسيزيد ذلك من حالة الاحتقان الفلسطيني، خاصة في الضفة الغربية، وقد يفتح ذلك الأبواب على خيارات المقاومة المدنية والمسلحة.

اجتماعياً؛ سيؤدي القرار إلى مزيد من التضييق على سكان البلدة القديمة، ويسرّع من عمليات التهجير القسري والتمييز العنصري بحق الفلسطينيين، ويعجل بعمليات التغيير الديموغرافي، ويضع السكان الأصليين أمام تحدي التهجير وربما التصفية العرقية بعد الصمت الدولي الذي قابل به النظامان العربي والدولي جرائم "إسرائيل" الشبيهة في غزة.

لا تقل الدلالات القانونية والإدارية لهذا القرار خطورة عمّا سلف عرضه، فمن المنظور القانوني، فإنّ القرار يُعد خرقاً للقانون الدولي، لأن الخليل مدينة محتلة، ولا يحق لدولة الاحتلال نقل الصلاحيات الإدارية لأجسام استيطانية غير شرعية، ومن ناحية إدارية، فقد أنهى القرار دور بلدية الخليل الطبيعي في إدارة الشؤون المحلية، بما في ذلك إدارتها للمدينة وإشرافها وولايتها على الحرم. 

لهذا القرار أبعاد بالغة الخطر، يتعين إبرازها والتنبيه لمخاطرها؛ يتصل البعد الأول بهوية الحرم الإبراهيمي والبلدة القديمة، إذ يقوّض الهوية الإسلامية والعربية للمدينة والحرم الذي تطمع "إسرائيل" في تحويله إلى رمز توراتي، والبعد الثاني يتعلق بإنهاء النفوذ الفلسطيني في واحدة من أقدم مدن فلسطين ومراكزها الدينية، أما البعد الثالث، فيشير إلى طبيعة التوجهات الإسرائيلية في الخليل حرماً ومدينة، والتي تشي بطابعها التفكيكي المعمّق لسياسات الفصل العنصري.

بإزاء ذلك، يجب أن يكون هنالك جهد إقليمي، عربي وإسلامي، شعبي ورسمي، تُستنهض فيه الطاقات من أجل إبطال مفاعيل القرار الإسرائيلي، وذلك من خلال الدبلوماسية الشعبية والرسمية، وعبر حراك سياسي وقانوني وحقوقي واسع وعلى كل المسارح الإقليمية والدولية، وقبل ذلك كله، لا بد من تأمين أقوى إسناد لأهالي الخليل، وإسناد لكل الشعب الفلسطيني ليتمكن من مواصلة صموده، ولينهض مصحّحاً لمواقف السلطة الفلسطينية التي أفقدت هذا الشعب معظم حقوقه التاريخية في بلده فلسطين.

يشكل قرار نقل إدارة الحرم الإبراهيمي إلى مجلس ديني استيطاني تطوراً بالغ الخطورة في مسار التهويد الإسرائيلي. فهو لا يقتصر على تغيير إداري، بل يحمل دلالات سيادية ودينية تمس جوهر الصراع، وتكرّس "سيادة إسرائيل" على الخليل كاملة وتهويد البلدة القديمة فيها، تمهيداً لتحويلها إلى نقطة جذب دينية لليهود على غرار البلدة القديمة في القدس. كما أنه يستكمل خطة السيطرة الرمزية على المدن المقدسة "القدس والخليل وبيت لحم" بهدف "أسرلتها".

مواجهة هذا القرار تتطلب تحركاً متعدد المستويات، يدمج بين البعد القانوني والسياسي والدبلوماسي والديني، ويستند إلى تثبيت الحق الفلسطيني في مدينة الخليل النابضة بالتاريخ والمقاومة.