"اليوم التالي" في غزة... الوصفة الإسرائيلية ـــــ الأميركية ستكون "فاشلة"!
تصرّ "تل أبيب" وواشنطن على خيارات تحاصر مستقبل الفلسطينيين كمنح "إسرائيل" سلطة الإشراف الأمني على القطاع وبقاء قواتها منتشرة ضمن أجزاء منه أو المطالبة بنشر قوات دولية.
-
السيناريوهات المطروحة للتحكّم بـ "اليوم التالي" تبدو فرص نجاحها قليلة.
يبدو أنّ ملامح "اليوم التالي" في غزة بدأت تتبلور تدريجياً بعد اللقاء، الذي جمع مؤخّراً الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع زعماء دول عربية وإسلامية في نيويورك، وما تسرّب من معلومات صحفية عن دور ما يؤدّيه رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير في هذا الملف.
وبغضّ النظر عمّا سيتمّ الاتفاق عليه بين ترامب ونتنياهو حيال ذلك، فإنه لا يمكن التعامل مع هذا المصطلح بوصفه متطلّباً أساسياً لا مفرّ من نقاشه في سياق الجهود الرامية لوقف الحرب على القطاع، وإلّا فإنّ حكومة نتنياهو تكون قد نجحت في تبرير استمرار حرب الإبادة، وقتلها ما يزيد على نحو 65 ألف مدني فلسطيني.
لذلك فإنه من المهم اليوم التذكير بمضامين هذا المصطلح، أهدافه الحقيقية، وأبعاده على مستقبل القضية الفلسطينية أولاً، وعلى مسيرة الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي ثانياً. فهو ليس مجرّد مخرج زمني لوقف الحرب، بل يمثّل إطاراً استراتيجياً لرسم ملامح ما بعد الحرب على مستوى المنطقة ككلّ.
ملاحظات كثيرة
قد يبدو للوهلة الأولى أنّ المصطلح المذكور مجرّد مطلب "اعتيادي" فرضته المخاوف الإسرائيلية من إمكانية تكرار عملية "طوفان الأقصى"، لكن عملياً، وبعد مرور عدة أشهر على تداوله بشكل مكثّف في جميع اللقاءات والنقاشات السياسية والإعلامية المرتبطة بحرب غزة، فإنه يمكن تسجيل عدة ملاحظات من شأنها توضيح الأهداف التي يسعى إليها هذا المصطلح ومستقبله. وهذه الملاحظات هي:
-حالة الغموض التي تكتنف استخدام المصطلح من قبل الدول والقوى المؤثّرة في الحرب الإسرائيلية على القطاع. فالولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية تستخدم "اليوم التالي" كصيغة ضبابية لفتح النقاش في مستقبل إدارة القطاع من دون الالتزام بتصوّر محدّد. وعليه فإنّ مثل هذا الغموض يتيح لكلّ طرف أن يملأ المصطلح برؤيته الخاصة، من "اليوم التالي من دون حماس" إلى "اليوم التالي مع سلطة فلسطينية معزَّزة"، أو حتى "اليوم التالي مع إدارة عربية ـــــ دولية".
-يتجاهل المصطلح جوهر الصراع والمتمثّل في احتلال "إسرائيل" للأراضي العربية، ورفضها تنفيذ قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة. فالمصطلح يركّز فقط على "إدارة غزة" بعد الحرب، وكأنّ المسألة إدارية أو إنسانية، لا في استمرار الاحتلال بأشكاله المتعدّدة، إلى الاستيطان الذي يقضم ما تبقّى من أراضي الضفة الغربية، فرفض الاعتراف بالحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني. وحتى عند الحديث عن الدولة الفلسطينية فإنه غالباً ما يكون غامضاً، وعلينا أن نتوقّع ماهية هذه الدولة وحدودها في سياق الخطط والصفقات التي طرحتها إدارة ترامب سابقاً أو حتى في إطار الدعم الأميركي غير المحدّد لـ "إسرائيل".
-المصطلح ينطلق في مراميه فقط من تحقيق مصلحة "إسرائيل" وتلبية هواجسها الأمنية وأطماعها التوسّعية، ولا يقرّ بأيّ حال من الأحوال بحقّ سكان قطاع غزة في تحديد مستقبل قطاعهم، واختيار الإدارة التي ستتولّى شؤونهم وتعبّر عن طموحاتهم وتطلّعاتهم المشروعة في الحياة الآمنة والكريمة ضمن دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة.
-تباين الرؤية العربية والإقليمية والدولية لماهية "اليوم التالي". ففي الوقت الذي تريده واشنطن عبر دور محسوب للسلطة الفلسطينية مع مشاركة عربية أو دولية، وأحياناً تطرح مشاريع خارج السياق التاريخي والجغرافي، فإنّ الدول العربية تتحفّظ على المشاركة العربية والدولية خشية استغلال المظلة العربية لتصفية القضية الفلسطينية، وتهجير من تبقّى من سكان القطاع إلى خارجه. في حين أنّ هناك دولاً أخرى كتركيا، قطر، وإيران تعتقد أنّ استبعاد "حماس" من المشاركة في إدارة شؤون القطاع ليست واقعية بحكم حضورها ونفوذها الشعبي.
- التداعيات المحتملة للمصطلح على الشرعية الفلسطينية من حيث زيادة الشكوك الدولية بقدرة وأهلية القوى الفلسطينية الفاعلة على الأرض في إدارة شؤون القطاع، وصولاً إلى زعزعة ثقة المجتمع الدولي بإمكانية وجود دولة فلسطينية تلتزم بتعهّداتها وبمسار السلام مع "إسرائيل".
ولهذا تصرّ "تل أبيب" وواشنطن على خيارات تحاصر مستقبل الفلسطينيين كمنح "إسرائيل" سلطة الإشراف الأمني على القطاع وبقاء قواتها منتشرة ضمن أجزاء منه أو المطالبة بنشر قوات دولية.
- في مجمل النقاشات التي تتناول "اليوم التالي" يتمّ التركيز على البعد الإنساني وعملية إعادة إعمار القطاع المهدّم كاملاً فقط، وهو على أهميته إلا أنه يبقى غير كافٍ لتحقيق استقرار مستدام ما لم يترافق مع حلول سياسية تنطلق من تنفيذ قرارات الشرعية الدولية المعروفة، وإلزام "إسرائيل" بوقف حروبها واعتداءاتها واستيطانها، وإلّا فإنّ الاستقرار لن يدوم. وكما أنّ عملية طوفان الأقصى كانت دفاعاً عن انتهاك حرمة المسجد الأقصى، فإنّ عملية الإبادة التي تنفّذها حكومة نتنياهو منذ عامين بحقّ سكان قطاع غزة ستكون "وقوداً" لإشعال جذوة وفكرة المقاومة في عقول الأجيال القادمة.
سيناريوهات فاشلة
وعلى ذلك فإنّ السيناريوهات المطروحة للتحكّم بـ "اليوم التالي" تبدو فرص نجاحها قليلة استناداً إلى معطيات الواقع وحقائقه. فالسيناريوهات التي تستبعد مشاركة حركة حماس بشكل كامل تواجه صعوبة فعليّة في تطبيقها منذ البداية، بسبب الحضور الفاعل للحركة في المشهدين الشعبي والعسكري في غزة.
كما أنّ أيّ خطة سياسية تحتاج إلى تفويض دولي قوي متمثّلاً في صدور قرار أممي أو توفّر توافق إقليمي لتكون مقبولة، خاصة إذا ما تضمّنت نشر قوات دول عربية أو دولية والمساهمة في إعادة الإعمار. لكن إلى الآن ليس هناك توافق إقليمي أو دولي على سيناريو محدّد في هذا السياق. مع الإشارة هنا إلى أنّ الشرعية والقبول المحلي ضروريان، وإلا ستتعرّض الإدارة الجديدة لرفض شعبي ومقاومة، خصوصاً إن تمّ التنكّر للحقوق الأساسية للسكان.
أما الشروط التي تضعها "إسرائيل" (مثل نزع السلاح، عدم إعادة إحياء البنى العسكرية لحماس) فهي غالباً ما ستكون نقطة توتر في التفاوض. ولا ننسى بالطبع أنّ موارد إعادة الإعمار كبيرة وهائلة، ولا يمكن الانطلاق عملياً من دون تحفيز دولي كبير، وضمانات سياسية واقتصادية طويلة الأمد. أي أنّ هناك حاجة لتوافق إقليمي ودولي واسع حول "اليوم التالي" وليس فقط الاكتفاء بما تريده "إسرائيل".
وحتى يتمّ الاتفاق على سيناريو لـ "اليوم التالي"، ستبقى "إسرائيل" مستمرة بحرب الإبادة التي تشنّها على الشعب الفلسطيني متذرّعة بالحاجة إلى "ضمانات" بعدم تشكيل القطاع، المدمّر عن أبيه، خطراً على كيانها المحتل!