"طوفان الأقصى"... وتركيا الملتبسة

يدرك القادة الأتراك أن منطقة غرب آسيا أصبحت في واقع جديد بعد عملية "طوفان الأقصى"، وأنها خلطت أوراق المنطقة بشكل لم تشهده منذ 100 عام، وأفرزت معادلات جديدة تستوجب تسويات سياسية مختلفة.

  • تستمرّ تركيا في سياساتها المتناقضة بين الشرق والغرب.
    تستمرّ تركيا في سياساتها المتناقضة بين الشرق والغرب.

أنهى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن جولته الأخيرة في المنطقة التي أمضى فيها 7 أيام، وكانت تركيا من الدول الأساسية السبع التي حطَّ فيها، إضافة إلى اليونان ومصر والسعودية والإمارات وقطر و"إسرائيل". 

وقد سبقت زيارته تصريحات لافتة للنظر لوزير الخارجية حقان ڤيدان حول ضرورة عدم الصدام العسكري بين ما يعتبره معارضة سورية والحكومة السورية مع إحلال السلام، بما يدفع إلى التساؤل عن حقيقة الموقف التركي من سوريا بعد "طوفان الأقصى"؟

اتّسمت المواقف التركية بعد معركة طوفان الأقصى بالتناقضات الشديدة، فقد بدأت بمطالبة قيادات سياسية في حركة حماس مقيمة في تركيا بالخروج منها تحت عنوان المحافظة على أمنها، رغم إدراك الجميع أن "الموساد الإسرائيلي" سيفكّر ألف مرة في تعريض علاقات تل أبيب مع أنقرة للاهتزاز في أصعب زمن على الكيان، وفي ظل حاجته الماسة إلى الحفاظ على علاقته الإقليمية مع دولة وازنة بحجم تركيا، كما أن الصادرات التركية إلى الكيان لم تتوقف إثر المجازر التي تعرض لها الغزّيون، بل ارتفعت بشكل كبير، كما تشير أرقام الصادرات التركية، إذ بلغت في شهر كانون الأول العام الماضي 430.6 مليون دولار، فيما كانت في شهر تشرين الثاني الذي سبقه 319.5 مليون دولار، أي بزيادة قدرها 34% تصبّ في مصلحة الشركات المقربة جداً إلى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

في مقابل ارتفاع الصادرات التركية إلى الكيان، كان هناك ارتفاع في مستوى التصريحات المنددة بالسياسات العسكرية الإسرائيلية التي اتسمت بالإبادة الجماعية لأهل غزَّة، والدفاع عن حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، مع تحشيد جماهيري قلَّ مثيله في إسطنبول وأنقرة بمئات آلاف الأتراك المؤيدين لحزب العدالة والتنمية الحاكم لتركيا، دعماً لفلسطين ومقاومتها، بما يعبر عن المزاج الحقيقي لغالبية الشعب التركي رغم الضغوط الاقتصادية الهائلة عليه. 

التناقض الكبير في السياسات التركية قبل "طُوفان الأقصى" وبعده محكوم باعتبارات متعددة، فهناك الدولة التي استيقظت على مشروع حلم العودة كدولة إمبراطورية محورية في الشرق تستطيع التأثير في السياسات العالمية، بما يحقق لها دوراً إقليمياً كبيراً يستطيع ملء الفراغ الأميركي المتزايد في منطقة غرب آسيا، كما في بقية العالم، من خلال التعاون مع الأميركيين والإسرائيليين في جوانب متعددة، وخصوصاً في الساحتين السورية والعراقية، بالرغم من الخلاف الكبير معهما حول حجم هذا الدور وسعته ومداه الجغرافي.

وهناك أيضاً في المقابل قوى آسيوية مختلفة استطاعت أن تختزل عنصر الزمن بصعود دورها العالمي، كالصين وروسيا، إضافة إلى إيران التي استطاعت أن تعزز دورها الإقليمي بشكل كبير بصعود المحور الذي أسسته في غرب آسيا بعد تحرير جنوب لبنان عام 2000 والاحتلال الأميركي للعراق، ثم الاجتياح الغربي لسوريا، إضافة إلى الحرب الأميركية على اليمن، والأهم من كل ذلك هو دعمها حركات المقاومة في فلسطين المحتلة، بما يصيب درة الغرب في مكمنه. هذه القوى الثلاث تدفع السياسيين الأتراك إلى استثمار هوامش الصراع المتوسعة بين الشرق والغرب وإقامة علاقات تعاونية جيدة معها بما يخدم حلم المشروع التركي الجديد. 

 تصريحات وزير الخارجية التركي حقان ڤيدان لا تخرج عن تناقضات السياسة التركية، ولها دوافع داخلية وخارجية اجتمعت مع بعضها البعض، فمن الناحية الداخلية هناك حاجة ماسة للفوز بالانتخابات البلدية، وخصوصاً مدينة إسطنبول التي تمتلك رمزية خاصة من الناحية التاريخية كرمز لاسترداد المشروع التركي كعاصمة إمبراطورية من جديد، إضافة إلى بعدها الشخصي المتمثل بالرئيس التركي رجب طيب إردوغان. وهنا تشكّل فلسطين إحدى أهم الروافع الشعبية لحزب العدالة في مقابل معارضة تركية لم تتخذ موقفاً شعبياً حازماً ومؤيداً لفلسطين.

وأهم ما فيها أنها حالة استباقية للمرحلة القادمة بعد الزلزال الجيو-سياسي الأكبر في تاريخ المنطقة إثر عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الثاني/أكتوبر الماضي، التي نقلت منطقة غرب آسيا إلى واقع جديد، وأن الستاتيكو السائد قد كُسر، ولا بد من الهدنة الطويلة بعنوان الاستقرار الذي لا يمكن أن يتحقق باستمرار سوريا كمركز للفوضى المنظمة.

والأمر لا يخلو من رسائل ضاغطة على الأميركيين المربكين في أوكرانيا وفلسطين، وهم الذين يبحثون عن حلول لأزماتهم فيها، ويحتاجون إلى تركيا في اليوم التالي لإيقاف إطلاق النار في غزة، وهذه طبيعة السياسات التركية منذ عام 2016، القاضية بتوسيع هوامش الدور الإقليمي باستغلال الصراع الدولي، وحاجة كل الأطراف إليها، وهم يقولون للجميع إننا حاضرون وقادرون على تعطيل أي حلول إذا لم يكن لنا أبرز دور إقليمي في المرحلة القادمة.

تستمرّ تركيا في سياساتها المتناقضة بين الشرق والغرب، فهي بالرغم من دعمها السياسي لحركة حماس، فإنها تجد في الحرب على غزة أكبر فرصة لها، فاحتياج الولايات المتحدة إلى احتواء نتائج ارتدادات عملية "طوفان الأقصى"، وتفريغ الانتصار الهائل لحركة حماس وبقية حركات المقاومة في غزة بعد اليوم التالي لوقف إطلاق النار، الذي يكون باستغلال القدرات المالية لقطر والسعودية والإمارات وإغراء مصر وتركيا بتكليف شركاتهما بإعادة الإعمار والعمل على احتواء حركة حماس باستبعاد القادة العسكريين الميدانيين وتعويم جانب من الجناح السياسي بعنوان الواقعية السياسية، كل ذلك سيجعل تركيا رقماً صعباً في المعادلات الإقليمية.

يدرك القادة الأتراك أن منطقة غرب آسيا أصبحت في واقع جديد بعد عملية "طوفان الأقصى"، وأنها خلطت أوراق المنطقة بشكل لم تشهده منذ 100 عام، وأفرزت معادلات جديدة تستوجب تسويات سياسية مختلفة، بما يؤدي إلى تغيير الخرائط الجيوسياسية لمنطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا، عدا عن الخارطة السياسية العالمية التي زادت حدة الصراع الدولي بارتفاع مستوى الاستقطاب العالمي.

تحقيق الرغبة التركية في دور إقليمي كبير من بوابة غزَّة منوط بكل اللاعبين الإقليميين والدوليين، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بالانتقال من حالة التأرجح بين الغرب والشرق، والاصطفاف الواضح مع القوى الآسيوية الناهضة، والقطيعة مع "إسرائيل" التي لن تسمح لأي دولة في الإقليم بأخذ حجمها بما يتناسب مع قدراتها وجغرافيتها السياسية، والتعاطي مع سوريا والعراق بمنطق التعاون الإقليمي التكاملي، وليس بالاحتلال والتغيير الديمغرافي، فهي أمام صيغة إقليمية جديدة تتناسب مع مجمل تداعيات 7 أكتوبر وما بعده. 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.