"قانون التعدي" الصيني الجديد.. هل يضع حداً للتوترات في المنطقة

بكين ترى أن كل ما تشهده المنطقة من توترات عائد إلى التدخل الخارجي فيها، بحيث سعت واشنطن لتعزيز تعاونها، أمنياً وعسكرياً، بعدد من دول المنطقة، سعياً لتنفيذ استراتيجيتها الهادفة إلى "احتواء الصين".

  • عن المحاولات الأميركية لشيطنة الصين.
    عن المحاولات الأميركية لشيطنة الصين.

توترات كبيرة تشهدها منطقة بحر الصين الجنوبي دفعت بكين إلى اتخاذ خطوات حاسمة وتصعيدية لتأكيد جديتها في الدفاع عن سيادتها وحماية أمنها القومي.

كان آخر تلك الإجراءات قانون جديد أطلقته الحكومة الصينية باسم "قانون التعدي"، يبدأ العمل به منتصف هذا الشهر (حزيران/يونيو 2024)، يسمح لقوات خفر السواحل الصينية باحتجاز كل من يحاول تجاوز الحدود البحرية للبلاد بصورة غير قانونية، والتحقيق معه لمدة تصل إلى ستين يوماً.

تلك الإجراءات أثارت حفيظة الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، وخصوصاً الفلبين، بحيث شهدت الفترة الأخيرة قيام القوات الصينية باستخدام خراطيم المياه لإبعاد السفن الفلبينية عن المناطق المتنازع عليها.

في 25 آذار/مارس الماضي قدمت السفارة الصينية في مانيلا احتجاجاً شديد اللهجة إلى وزارة الخارجية الفلبينية بشأن الانتهاك غير القانوني لسفن فلبينية للمياه المتاخمة لريناي جياو في جزر نانشا الصينية، حيث حاولت سفينة فلبينية نقل مواد بناء إلى سفينة حربية "متوقفة" بصورة غير قانونية.

الولايات المتحدة الأميركية، من أجل زيادة حدة التصعيد في المنطقة، أعلنت عزمها نشر مزيد من قوات خفر السواحل الأميركية لمساندة الفلبين وغيرها من الدول، وهو ما يُعَدّ رفضاً أميركياً للقانون الصيني الجديد.

تلتزم واشنطن ومانيلا معاهدة الدفاع المشترك الموقعة عام 1951، والتي لا تزال سارية المفعول، وتنص على أن يساعد الجانبان، في الدفاع، أحدهما الآخر، إذا تعرض أي منهما لهجوم من جانب طرف ثالث.

وكانت حدة التوتر في العلاقات الصينية الفلبينية ازدادت في عام 2022، بعد قيام الرئيس الفلبيني ماركوس بتعزيز علاقاته بالولايات المتحدة الأميركية، على عكس موقف سلَفه المؤيد لبكين.

بكين ترى أن كل ما تشهده المنطقة من توترات عائد إلى التدخل الخارجي فيها، بحيث سعت واشنطن لتعزيز تعاونها، أمنياً وعسكرياً، بعدد من دول المنطقة، سعياً لتنفيذ استراتيجيتها الهادفة إلى "احتواء الصين".

المحاولات الأميركية لشيطنة الصين

تسعى الولايات المتحدة الأميركية لتصوير الصين كأنها دولة عدوانية تسعى للسيطرة على جيرانها من الدول الصغيرة، وهذا أمر غير صحيح بكل تأكيد.

الصين دولة مسالمة، وتاريخها خلا من أي طموح استعماري، فهي لم تستعمر أحداً، ولم تنتظر المساعدة من أحد، واستطاعت بناء نهضتها بسواعد أبنائها، وبالاعتماد على ثرواتها ورؤية قيادتها.

لكن الصين تعيش ما يمكن أن نسميه "لعنة الجيوبولتيك"، بمعنى أنها تعاني عدداً من الأمور التي من شأنها أن تساهم في إضعاف سلطة الدولة، وتحد نموها وتطورها.

من حيث الحدود، للصين حدود برية مشتركة مع أربع عشرة دولة، يبلغ طولها 22,117 كم (13,743 ميلاً)، وهي أطول حدود برية في العالم، كما تتشارك في حدود بحرية مع خمس دول.

وما يزيد في تعقيدات المشهد، هو أن طبيعة الحدود بينها وبين الدول المحيطة بها غير مستقرة، بمعنى أنها تخضع لتقلبات الطبيعة، على غرار ما يجري في منطقة بحر الصين الجنوبي، بحيث تظهر جزر وتختفي أخرى.

للصين خلافات بحرية مع خمس دول هي: الفلبين وفيتنام وإندونيسيا وماليزيا وبروناي. وهو ما جعل الصين تتصدر قائمة الدول من حيث عدد المشكلات الحدودية، والتي بلغت 16 صراعاً حدودياً برياً وبحرياً، على رغم السياسة الهادئة والمتوازنة التي تنتهجها بكين.

تلك الصراعات لم تكن قائمة، ولم تسجل أي خلافات بين الصين وسائر دول المنطقة التي كانت تعترف بالحدود التاريخية بينها وبين الصين.

تلك الحدود هي ما يسمى "خط التسعة"، الذي يعطي بكين السيادة على مساحة واسعة من منطقة بحر الصين الجنوبي.

يتمتع بحر الصين الجنوبي بأهمية استراتيجية كبيرة، بحيث يمر من خلاله ثلث تجارة العالم، وتقدر قيمته بأكثر من ثلاثة تريليونات دولار سنوياً.

تبلغ مساحته 1.3 مليون ميل مربع، وفيه ثروات سمكية كبيرة، كما يحتوي على ما لا يقل عن 190 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي و11 مليار برميل من النفط.

عندما بدأت الولايات المتحدة التدخل في شؤون المنطقة، والسعي لاحتواء الصين، عملت على دفع دول المنطقة إلى المطالبة بإعادة ترسيم الحدود بينها وبين بكين، وهو ما ترفضه الصين.

السياسة الصينية، على رغم مرونتها، فإن تلك "المرونة" لا تعني "الليونة"، فهي حازمة وحاسمة عندما يتعلق الأمر بحقوق الشعب الصيني وسيادة الدولة الصينية.

الحضور الأميركي في المنطقة

 يوجد عدد كبير من القوات الأميركية في بحر الصين الجنوبي، بالإضافة إلى مئات القواعد الأميركية المنتشرة في الدول المحيطة بالصين.

وتوجد القوات الأميركية بصورة أساسية في كل من اليابان وكوريا الجنوبية. لذا، شهدت الآونة الأخيرة انعقاد قمم متكررة بين قادة الدول الثلاث. وتسعى الولايات المتحدة لتذكية حدة الصراع بين بكين والحكومة الانفصالية في تايوان، من خلال إعلانها المتكرر دعم تايوان وتقديم المساعدات إليها.

تايوان، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، ليست سوى قاعدة طائرات خلفية لا يمكن إغراقها، وينطبق عليها ما ينطبق على "إسرائيل" التي تُعَدّ قاعدة متقدمة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

استنساخ النموذج الأوكراني في منطقة بحر الصين الجنوبي هدف تسعى واشنطن لتحقيقه، ومعيار نجاحها يتوقف على قدرتها على الزجّ بإحدى الدول في المواجهة مع الصين.

في حروب الوكالة، عادة ما تكون الدولة الأضعف هي الضحية، بمعنى أنه يتم الاستعانة بأضعف دول المنطقة للمواجهة مع الصين، وفي هذه الحالة قد تكون مانيلا هي الأضعف.

الدول القوية عادة تستطيع أن تتصرف وفقاً لمصالحها، وأن تحافظ على سيادتها. لذا، فإننا نرى ابتعاد الهند عما تسعى الولايات المتحدة لتنفيذه ضد الصين.

الولايات المتحدة الأميركية سعت لـ "تفعيل الهند" كونها كتلة آسيوية يمكن أن تكون منافساً للصين، وخصوصاً أن هناك مشكلات تاريخية وخلافات حدودية بين الهند والصين. 

وسعت الولايات المتحدة لضم الهند إلى تحالف كواد الذي يستهدف محاصرة الصين، وشجّعت الدول العربية و"إسرائيل" وإيطاليا على الموافقة على "الممر الهندي"، والذي هو في الواقع مشروع أميركي، هدفه منافسة مشروع الحزام والطريق الصيني.

ابتعاد الهند جعل الولايات المتحدة تتحدث عن توسيع تحالف أوكوس، الذي ضم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، والذي تم إعلانه في أيلول/سبتمبر 2021، ليضم كلاً من اليابان وكوريا الجنوبية، وربما لاحقاً الفلبين وغيرها من الدول.

مساعي بكين للتهدئة

ترى بكين أن مصلحتها تقتضي الابتعاد عن أيّ مواجهة، سواء مع الولايات المتحدة الأميركية أو غيرها من الدول، لكن ذلك لا يعني أبداً تخليها عن سيادتها وعن التمسك بحقوقها.

الوقت، بالنسبة إلى بكين، "مكسب صلب" يجب المحافظة عليه، بمعنى أن تأجيل أي مواجهة مع الولايات المتحدة سيقلل الخسائر بالنسبة إلى الصين، انطلاقاً من أن قوة بكين في تصاعد مستمر.

 ما زالت بكين تركز على بناء قوتها الاقتصادية، وتعرّف نفسها بأنها "دولة نامية"، وتضع برنامجاً زمنياً لاستكمال بناء الدولة، يتصادف مع الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 2049.

وعلى الصعيد العسكري، تضع بكين خطة لاستكمال بناء جيشها ليكون قادراً على خوض الحروب الخارجية في عام 2027، وهي الذكرى المئوية لتأسيس جيش التحرير الصيني.

الصين تسابق الزمن في تعزيز قدراتها العسكرية، بحيث تم بناء 10 طرادات صواريخ متطورة وتجهيزها خلال 48 شهراً فقط. ووُضعت في الخدمة مباشرة، وهي قادرة على حمل 1120 صاروخاً متنوعاً. 

كما تسعى بكين للانفتاح على أي حوار مع الولايات المتحدة، من شأنه أن يخفف حدة التوترات بين البلدين، فكان اللقاء الأخير الذي جمع وزراء دفاع البلدين على هامش قمة شانغريلا في سنغافورة.

ذلك اللقاء كان يمثل بارقة أمل لعدد من دول العالم، التي تدرك أن أيّ مواجهة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية ستجعل العالم يقف على أصابعه بكل تأكيد.