"كش ملك"

نصّب ترامب نفسه ملكاً في لعبة لم يبق على انتهائها سوى بضع خطوات، وعلى الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة أن تستعد لمن سيقول لها "كش ملك".

0:00
  • لم يعد بيد الرأسمالية التقليدية من سلاح لاستعادة هيمنتها على العالم.
    لم يعد بيد الرأسمالية التقليدية من سلاح لاستعادة هيمنتها على العالم.

في المظاهرات التي اجتاحت المدن الأميركية هذا الشهر رفضاً لسياسات الرئيس دونالد ترامب، رفع المتظاهرون لافتات تتهم ترامب بالتصرف كملك، وأعلنوا رفضهم لهذا الملك وأوهامه بالتفوق. ولأن الرجل متصالح مع أوهامه، ردّ على المتظاهرين بأنه ليس ملكاً، لكنه أهم من الملك.

يرسم هذا الردّ خطاً بين شخصية ترامب النرجسية، وسياسة الدولة الأميركية، ويطرح التساؤل الذي تثيره الكثير من وسائل الإعلام: هل يدفع سلوك ترامب وعجرفته السياسية، داخلياً وخارجياً، إلى تفكك الولايات المتحدة، أم أن أولويات السياسة الأميركية، داخلياً وخارجياً، تتطلب وجود شخصية بمواصفات ترامب؟

تراجع دور الولايات المتحدة عالمياً وداخل المعسكر الرأسمالي نفسه أصبح حقيقة تتجاوز النقاش. عبّرت هذه الحقيقة عن نفسها بتراجع دور الدولار كعملة احتياط عالمية مهيمنة، ونزوع عدد من الحلفاء الرأسماليين إلى الخروج من تحت العباءة الأميركية، وبشكل خاص أوروبا التي طالب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتشكيل جيش خاص بها، وما خطت نحوه ألمانيا وهولندا بتشكيل كتيبة الدبابات 414 التي تعد التشكيل العسكري الأول الذي يضم جنوداً من دولتين أوروبيتين منذ الحرب العالمية الثانية. يضاف إلى ما سبق التحديات الاقتصادية التي يفرضها صعود اقتصادات جديدة بعيدة عن المركز الرأسمالي، كما هي الحال في الصين والهند والبرازيل، وذهاب هذه الدول إلى تشكيل تكتلات اقتصادية كبرى مثل مجموعة بركس، ومجموعة شنغهاي تنافس الرأسمالية التقليدية من  الموقع الرأسمالي نفسه.

لم يعد بيد الرأسمالية التقليدية من سلاح لاستعادة هيمنتها على العالم غير الحرب سواء كانت عسكرية أو تجارية، تشن ضد خصوم المركز الرأسمالي، وحلفائه إذا لزم الأمر. يمكن أن تكون الحرب مباشرة كما هي الحال في حرب "الناتو" على روسياـ أو القصف الأميركي- البريطاني لليمن، ويمكن أن تكون حرباً بالوكالة كما حدث خلال "الربيع العربي"، أو حرب الكيان الصهيوني على غزّة ولبنان، أو الحرب بين الهند وباكستان، أو بين أفغانستان وباكستان أو الحرب الأهلية في السودان. 

الأمر نفسه ينطبق على الحرب التجارية الأميركية – الصينية، والحروب التجارية الأخرى التي تدور بين الصين والهند، والصين وفيتنام مثلاً. هذه الحروب التي لا تلقى اهتماماً إعلامياً كافياً لا يقل أثرها على خريطة العالم السياسية والاقتصادية عن أثر الحرب الرئيسية، إذ يشكل الخط التجاري الهندي البديل الرأسمالي لمبادرة الحزام والطريق الصينية، وهي عامل في إعادة تشكيل جغرافيا منطقتنا ابتداء من "الربيع العربي"، مروراً بالاتفاقيات الإبراهيمية، والحرب على غزّة، وانتهاء بخطة ترامب لوقف إطلاق النار.

 شركاء الولايات المتحدة الأميركية الاقتصاديون لا تمثلهم الصين وحدها، فالبيانات تشير إلى أن الميزان التجاري الأميركي يعاني من اختلال مع  شركاء عديدين مثل الهند، والمكسيك، والبرازيل، وفيتنام والاتحاد الأوروبي، وحتى تلك الدول التي يميل فيها الميزان التجاري إلى صالح الولايات فإن ذلك يكون مدعوماً بشكل رئيسي من مبيعات الأسلحة، هذا كله يجتمع في عجز إجمالي في الميزان التجاري الأميركي وصل في عام 2024 إلى تريليون دولار.

قد يكون من السهل على إدارة مثل إدارة الرئيس بايدن فرض عقوبات على الصين أو إيران، أو شن حرب على أوكرانيا أو غزّة، لكن فرض العقوبات والتعريفات الجمركية، وقطع المساعدات عن الشركاء والحلفاء يحتاج إلى شخصية نرجسية استعراضية مثل شخصية ترامب.

العالم كله مشغول بالاستعراض السياسي الذي يقدمه ترامب ومستشاروه ووزراؤه، والذي يصل حد التهريج في الكثير من الأحيان، وما يرافق هذا الاستعراض من تغطية إعلامية ساخرة في معظم الأحيان، تقدم الرئيس بصورة الملك الذي يخلط بين السذاجة والغباء، وتدعم تقاريرها بملفات عن قراراته المتناقضة من ساعة إلى أخرى. فهو رجل السلام ووقف الحرب والحصار في غزّة لكنه يصرّح بأنه زوّد الكيان الصهيوني بأحدث الأسلحة، التي استخدمها الصهاينة على أفضل وجه في قتل الأبرياء، وترافق ذلك التصريح بابتسامة عريضة وتغامز مع شريكه في الجريمة نتنياهو. رسول السلام هذا قصف المنشآت النووية الإيرانية وكاد أن يتسبب بكارثة عالمية، أو على الأقل حرباً إقليمية لولا حكمة القيادة الإيرانية. الرجل نفسه توصل إلى هدنة بين الهند وباكستان، لكنه يحاصر فنزويلا ويهدد بشن حرب عليها، ويطالب بضم كندا، ثم يوقف المحادثات والاتفاقيات التجارية معها بسبب مقطع فيديو يعود إلى حقبة الرئيس ريغن.

داخلياً، كانت الدولة العميقة بحاجة إلى رئيس يميني معاد للآخر، مع مسحة من الحماقة ليطلب دخول الحرس الوطني إلى أكثر من ولاية أميركية في تحد للدستور الأميركي نفسه، وأن يتحمل هذا الرئيس العبء الأخلاقي لمشاهد مطاردة المهاجرين في شوارع لوس أنجلوس، وفصل الأطفال عن ذويهم، والتدخل في انتخابات الهيئات المختلفة مثلما يفعل مع "زهران ممداني" نيويورك. 

وسط هذا السيرك على المستويين الداخلي والخارجي، تعمل الدولة العميقة على ترميم وسائل هيمنتها على العالم، من خلال صفقات ومؤامرات وحروب تجري بعيداً عن الكاميرات. لقد استعملت الدولة العميقة شخصية ترامب بأقصى ما تقدر، فهذا الرئيس الذي لا يتورع عن تحريض أتباعه على مهاجمة البيت الأبيض عند خسارة الانتخابات، ولا يتردد في قصف المفاعلات النووية التي تحوي يورانيوم مخصباً، لن يتردد في القيام بأي شيء ضد من يعتقد أنه يضر بمصلحة بلاده.

نجح كل ما سبق في رسم صورة الولايات المتحدة القوية التي تقود العالم، لكن المشكلة تكمن في أنها مجرد صورة، فزاعة لا تخيف أحداً إلا من عاشوا في الخوف طوال حياتهم، ليست مشكلة الولايات المتحدة وحدها، فأوروبا بحثت عن صورة نصر في أوكرانيا، والكيان الصهيوني بحث عنها في غزّة ولبنان. لكن الصورة لا تكفي فلا الاقتصاد الصيني تراجع، ولا روسيا قبلت بشروط "الناتو"، ولا إيران استسلمت ولا قام حزب الله أو المقاومة في غزّة بتسليم أسلحتهم، حتى خسارة اليسار في بوليفيا ردت عليها ايرلندا بفوز مرشحة اليسار كاثرين كونولي. 

لقد نصّب ترامب نفسه ملكاً في لعبة لم يبق على انتهائها سوى بضع خطوات، وعلى الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة أن تستعد لمن سيقول لها "كش ملك".