في قلبه جذوة الثورة

دمِثَاً كان أنيس النقاش، والأصلب في رعيله، لكنه تشرّب يافعاً مهارة التصويب على الهدف النهائي، فغلبت عليه حنكة العملانية، ولم يغبِش الضباب ناظريه عن الرؤية الثاقبة منذ ريعان الشباب وحتى الرمق الأخير.

  • أنيس النقاش احتضن في قلبه جذوة الثورة على أرض شيّدتها الثورة محجّاً للثوار العرب ولأحرار العالم
    أنيس النقاش احتضن في قلبه جذوة الثورة على أرض شيّدتها الثورة محجّاً للثوار العرب ولأحرار العالم

في أشدّ مفاصل الثورة الفلسطينية المتعثّرة، ينتقل أنيس ببندقيته نحو فلسطين من الطريق الأوسع، ومن الأضيق إلى الأعم. لم يتحوّل أنيس النقاش عن الثورة في انتقاله من الإطار التنظيمي للثورة الفلسطينية إلى الثورة الإيرانية، ولم ينقل البندقية من كتف إلى كتف، إنما انتقل إلى فلسطين بمركبه يمخر عباب يمٍّ رحب.

تربّى أنيس في مدرسة المقاصد الإسلامية تحت رعاية عمّه المربّي زكي النقاش؛ أحد معالم بيروت العروبة الثقافية، فعروبة ذاك الزمن الآدمي النظيف في لبنان وبلاد العرب هي صنوان ثورة الجزائر للتحرّر من الاستعمار الفرنسي، وثورة التحرر الوطني الناصرية، والوحدة المصرية ــ السورية في مواجهة "إسرائيل" والاستعمار الغربي والرجعية الخليجية.

نكهة الثورة العروبية في لبنان تحلّت بلهجة بيروتية محكيّة في البيوت ومقاهي الأحياء على هدير عبد الناصر ضد حكام الخليج "بترول العرب للعرب" وحول مذياع "صوت العرب". وعلى أحلام تحرير فلسطين وإسقاط الرجعية الخليجية والعربية، وعلى أناشيد "صوت فلسطين من القاهرة"، ثارت بيروت ضد الحلف الثلاثي في العام 1958، وترعرع الأطفال في مناخ الثورة. 

جيل أنيس نقاش الذي رضع الثورة مع حليب الطفولة، صدمته هزيمة 67 في الحرب العربية ضد "إسرائيل"، لكن الهزيمة (النكسة) ألهبت غضب الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج على وقع زحف الشعب المصري رفضاً لاستقالة عبد الناصر، وهدير "حنحارب". 

في بيروت، أنار تشييع عز الدين الجمل المهيب ضوء طريق الشباب في مقتبل العمر التحاقاً بفصائل الثورة الفلسطينية، وفجّر العدوان الإسرائيلي على مطار بيروت في العام 69 وتنكيل الاستخبارات اللبنانية بمخيمات الشعب الفلسطيني المنكوب برميل البارود الشعبي نحو حمل السلاح في مواجهة الإذلال والغطرسة الإسرائيلية.

البيئة الثورية الملتهبة صبّ معظمها في غرفة أبو جهاد على أبواب مخيمي صبرا وشاتيلا في الجامعة العربية. وفي مدرسة أبو جهاد (خليل الوزير) الذي يصفه أنيس النقاش بالأب الثاني، نشأ مع أترابه في المخيمات الفلسطينية وأحياء المدن والقرى اللبنانية.

أبو جهاد، العقل المدبّر للثورة الفلسطينية، ربّى الشباب الثائر على وجهة الهدف نحو تحرير فلسطين، فمن غرفة قيادته، تخرُج مجموعة "عباد الرحمن" الإسلامية، مقتنعة أن خليل الوزير بمثابة أمينها العام الذي يدعمها للجهاد ضد العدو الصهيوني، وتخرج بعد دقائق مجموعات الخط العروبي القومي أو الفيتنامي أو الخط الغيفاري أو "التوبومارس" اللاتيني... مقتنعاً كل منها على انفراد بتوجيهات الأمين العام "السرّي".

في هذه المدرسة العملانية، نهل أنيس النقاش ثقافة فلسطين السياسية، وأخذ على عاتقه تنظيم مجموعات تناضل على الحدود مع فلسطين المحتلة ضد الاحتلال. وفي هذه المدرسة السياسية، وعلى الطريق نفسها، نشأ علي شعيب الجنوبي، ومرشد شبّو البرجاوي من إقليم الخرّوب، ومحمد أبو عاصي من معاصر الشوف الأعلى... ونشأ في التبّانة شمالي لبنان خليل العكاوي (أبو عرب)، وأخذ كل منهم، وغيرهم لا يُعدّ ولا يُحصى، مساره الخاص.

أنيس النقاش احتضن في قلبه جذوة الثورة على أرض شيّدتها الثورة محجّاً للثوار العرب ولأحرار العالم بعد مذابح أيلول الأسود في الأردن في العام 1970، فكانت أرض المحجّ تمور بثوار العراق وتونس والمغرب وثوّار "الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج".... وثوّار "الجيش الثوري الياباني" وكارلوس الفنزويلي وأحرار كل مكان.

في هذا الموج الثوري المتلاطم، تكاتف أنيس النقاش مع بعض كوادر الثورة الإيرانية، ونسج أواصر الكفاح المشترك مع نواة حرس الثورة، منها محمد صالح الحسيني ومحسن رضائي وجلال الفارسي ومحسن دوست... وهو المنحى الذي نقله إلى الجانب الآخر من فلسطين، بعد أن سلّمت الثورة الفلسطينية الراية إلى الثورة الإيرانية.

في السجون الفرنسية، ظل قلب أنيس ينبض بالثورة، كما ينقل أحاديثه محاميه الرئيس أنطوان كونت والمحامي المناضل العريق جاك فيرجيس. وخلف القضبان، حرص أنيس على التضامن مع المناضل العنيد، أسير الغطرسة الإمبريالية والصهيونية، جورج إبراهيم عبد الله.

تعاطف أنيس في سجنه مع المناضل الفرنسي، مناصر القضية الفلسطينية، فريدريك أورياك، ومناضلي "العمل المباشر". ولم يحطّ السجن لمدة 10 سنوات من عضده توقاً إلى الحرية والعودة إلى الثورة.

الجانب العملانيّ الّذي نشأ عليه أنيس النقاش أخذه إلى المشاركة في مهام دعم محور المقاومة في إيران وسوريا ولبنان، فوظّف مهنة الهندسة في جهاد البناء، عبر العمل مع شركة الكهرباء الإيرانية المتعاقدة مع كوريا الجنوبيّة لإنجاز أهم مشروع انتقل بإيران من عتمة دمار الحرب إلى النّور المستدام.

لم تتوقف مهارة أنيس الحاذقة على المهمات العملانية فحسب، بل راكم أيضاً خبرة معرفية ثاقبة في التطوّر الفكري الذي كان يعبّر عنه في مقابلاته وتحليلاته، باحثاً عن أعماق الأحداث المباشرة وأبعادها الاستراتيجية.

على قاعدة النضال من أجل أهداف الثورة، بحث أنيس النقاش في كتابه "الكونفدرالية المشرقية" سبُل التحرّر من التبعية وهيمنة المصالح الغربية في منظومة التوحّش، اعتماداً على القدرات الذاتية والتكامل بين شعوب المنطقة.

منهج أنيس النقّاش الثوريّ للقتال والمقاومة بيد، والبناء باليد الأخرى على الصعيد الإقليمي لمصلحة شعوبها ومستقبل أجيالها، هو مطرقة ثورية فاصلة بين الثورة والارتداد عن الثورة في نقل البندقية من كتف إلى كتف تحت وطأة غزو ثقافة النيوليبرالية ونظام الغابة العالمية بذريعة محاربة الاستبداد.

في منتدى بيروت الاجتماعي في العام 2009، على نسق منتدى بورتو أليغري العالمي، يقول القائد الأممي، أحد مؤسّسي الحزب الشيوعي البرتغالي والحزب الشيوعي البرازيلي، ميغيل أوربانو، عن محور المقاومة والثورة الإيرانية: "حيث تكدّس الإمبريالية والصهيونية ترسانتها الحربية وهجومها الثقافي والاستخباري، يكون هنا مركز الثقل العالمي، ويكون النضال هنا في مواجهة الإمبريالية دفاعاً عن الإنسانية جمعاء".

أنيس النقاش كان في هذا الطّريق إلى جانب صنّاع الثورة والحياة الإنسانيّة في محور المقاومة، فوق ركام من المرتدين الغارقين في وحول الزواريب الآسنة؛ سمكاً صغيراً يأكل الطعم متوهّماً ضوء فانوس الصيد الإمبريالي نور الشمس.