تجليات القمة الروحية بين النجف والفاتيكان.. لقاء البابا والسيستاني

بقيت المرجعيّة الدينيّة المتمثّلة بالسيد السيستاني في الحوزة العلمية في النجف الأشرف في موقف المواجهة لكلّ من يسيء إلى الإسلام ويغيّر رسالته، وتحدّت الإرهاب والمتطفّلين على الإسلام.

  • هذه القمَّة التي جمعت الفاتيكان بالنجف الأشرف مثّلت سبيل التقارب والانفتاح وتقبّل الآخرين
    هذه القمَّة التي جمعت الفاتيكان بالنجف الأشرف مثّلت سبيل التقارب والانفتاح وتقبّل الآخرين

"هذا الاجتماع أفادني روحياً... إنه النور". هي بضع كلمات جسَّدت خلاصة النور الذي غمر العالم عقب القمة الروحية التاريخية. قالها قمة الهرم الكاثوليكي في العالم، خليفة القديس بطرس، وأسقف روما، البابا فرنسيس، الَّذي ألقى كلماته النورانيّة بكلّ إخلاص ومصداقيّة، وبيّن حقيقة لقاء النجف ذي الخمس والأربعين دقيقة؛ ذاك اللقاء الذي تجرَّع البابا، بما له من وزن روحي ديني مسيحي، أعباء السفر ومشقة الطريق من أجله، وعبر كل محطات التاريخ العريق، ليحطّ بشعار السلام عند باب السلام وراعيه في العالم الإسلامي.

هذا اللقاء دخل التاريخ. ولا شك في أن التلاقي بين الكنيسة الكاثوليكية والمرجعية ‏العظمى للشيعة، وفي العراق خصوصاً، سيغير التاريخ، فالنّور الّذي لمسه البابا في المرجع الديني الإسلامي وقمة الهرم الشيعي في العالم، آية الله السيد السيستاني، أرخى سلامه على كلّ القلوب المتعبة والنفوس المرهقة، وأدخل السّلام، كما النور، إلى قلب هذا العالم ‏الذي سكنت أسراب الغربان مدنه، وأطبقت تحولات السياسة على أنفاس شعوبه، في زمن صام كثيرون فيه عن قول الحق وتجسيد الحقيقة، فكانت القمة الروحية العظمى سبيل الخلاص ورسالة السلام بين الكنيسة والمسجد، لإرساء الخلاص وتثبيت الإيمان، فكما أفاد لقاء آية الله العظمى السيد السيستاني الحبر الأعظم البابا فرنسيس، أفاد قلوب العالم أجمع أيضاً.

‏إنَّ ‏البابا فرنسيس، وما يبذله من جهود في حمل هموم الإنسانيّة والتصدي للتحديات التي يواجهها الإنسان ككلّ، والمسيحي بشكل خاصّ، في هذا العصر، وما يحمله في قلبه من إيمان، سافر إلى العراق ليكون في محضر الهالة الإسلاميّة الفريدة والقامة الشيعية الشامخة السيد السيستاني.

وبعيداً من السياسة وآثارها وما ستتركه وستجنيه على صعيد الجانب‏ المسيحي وحقوقه في العراق والشرق الأوسط، فإنَّ إعلاء قيم السلام والتسامح وكلمة الاعتدال لدى كلّ من الهرمين الشريفين في العالم المسيحيّ والإسلاميّ، بروحيهما اللطيفة المشبعة من حضور الربّ، أبعد بكثير من كل ما للسياسة من دنس.

‏على الرغم من ذلك، أبى كلّ من البابا وآية الله السيستاني إلا أن يحيطا العالم بما يتميزان به من سمات بارزة في شخصية كل منهما، ويشاركاه التقوى وحس الانتماء إلى الإنسان وشعور الإنسانية، بعيداً من الأغراض الدنيوية الدنيئة الممسوسة بدنس السياسة، فالزهد والتقوى والتواضع وما تجسدها من معانٍ عظيمة، كانت أبرز عناوين تلك القمة الروحية العظمى في بيت السيد السيستاني، ولعلّها، على الرغم من أهمية مضامين الزيارة، لم تكن أقل أهمية.

هذه القمَّة التي جمعت الفاتيكان بالنجف الأشرف مثّلت سبيل التقارب والانفتاح وتقبّل الآخرين ‏على اختلاف جنسهم ولونهم، وأظهرت للعالم كلّه معنى الإسلام الأصيل والخطّ الفكري الإسلامي الصّحيح الذي يعكس صورة المسلمين والإسلام، بل والتشيع أيضاً.

إنّ حوزة النجف الأشرف، المدرسة الإسلامية الشيعية الكبرى، المتمثّلة بالمرجع الإسلاميّ الأعلى في العالم السيد السيستاني، بيّنت كيف يقبل الإسلام الآخر على اختلاف دينه، وأظهرت مدى التقارب بين الكنيسة بما تحمله من شعار ورمز للمسيحية والنجف بما يحمله من رمز للشيعة والإسلام، وهو الذي يقدّم الإسلام ودراساته في الفقه والأصول والعقيدة والتفسير وعلوم القرآن وعلوم الكلام، ويوفّر القيادة والزعامة الروحية للشيعة، ويحتضن أبرز مقدساتهم وتراثهم، فنحن المسلمين، النجف مدرستنا، والمرجع الأعلى آية الله السيد علي السيستاني قائدنا. وقد واجهنا الكثير من التحديات، في مقابل الكثير من أبناء الطوائف والديانات الأخرى الذين لم يلاقوا ما لاقيناه، ولم يعانوا ما عانى الإسلام. إن رسالتنا هي العيش المشترك، ونحن لا نرضى بتطفّل فئة إرهابية على ديننا وتنفيذ جرائمها في العالم تحت مسمى الإسلام، وسط صمت‏ دوليّ رهيب. 

هذا التحدّي لم تعانِه بقيّة الأديان والطوائف، التي لم يشهد أبناؤها محاولة لتشويه صورة دينهم الراقي بكل تفاصيله. وقد واجهنا الإرهاب والمتطفّلين على الدين، وأسقطنا العنف، وأرسينا بطلان الإسلاموفوبيا، فلا تمثلنا "القاعدة" و"داعش" وسائر العصابات المسلحة والمرتزقة التي تدعي النطق باسم الإسلام.

بقيت المرجعيّة الدينيّة المتمثّلة بالسيد السيستاني في الحوزة العلمية في النجف الأشرف في موقف المواجهة لكلّ من يسيء إلى الإسلام ويغيّر رسالته، وتحدّت الإرهاب والمتطفّلين على الإسلام واستهداف المقدسات والمراقد ‏والمساجد، وواجهت الإلحاد والحركات الفكرية المتفلتة والفاسدين، وتصدّت لمحاولات التفريط في العقيدة والإفراط في الغريزة، ونبذت العنف بكلّ أشكاله.

وقد أثبتنا حقيقة أنَّ هذا هو الإسلام، وهذا هو السيستاني. لطالما كان سماحته، وما زال، رجل السلام الأول، ورافض العنف والسبّاق إلى السلام في حرب الخليج الثالثة، وكانت مواقفه إبان غزو العراق وحرب النجف في 2004 تشهد على ذلك، فكان المنقذ والناصح، وهو الزاهد عن السياسة وأهلها، إلا أن رأفته وحرصه وانتماءه إلى الإنسان ورفضه العنف وخراب البلاد وإراقة الدماء ‏جعلته صاحب الحل الناجع في كل المعتركات، والصوت الحاضر لإيجاد الحل لكل مأزق.

كما أنَّ آية الله السيستاني سطّر دوراً آخر في إرساء رسالته وصون البلد وأهله في فتواه في العام 2003 بوجوب إجراء انتخابات عامة لكتابة الدستور عبر انتخاب مجلس تأسيسي بتصويت عام، وتحدى سلطة الائتلاف المؤقتة، فلولا تلك الفتوى، لكان الأميركيون ذوي شأن في تهميش الشعب العراقي في الحكم، كما أنَّ السيد ساهم في الوقوف أمام الطائفية، وساعد في إذابة المجتمع الشيعي بتناغم بين شرائح المجتمع العراقيّ على تنوّعه، ‏رغم كون الشّيعة الأكثرية والقوة الحاكمة في العراق، إلا أنه فضّل العيش المشترك والسلم الأهلي.

هذه الشخصية الإسلامية نذرت حياتها للدين والإنسان، وسطّرت الكثير مما يعكس عمق الإسلام وحكمة شخصياته ومدى قيمة تعاليمه ورفعتها ورقيها أمام المنحطين المتطرفين الذين اتخذوا جلباب الدين وسماً لسوء فعلهم. وكما هو ديدن راعي السلام الأبرز في المنطقة وحفيد رسول الإسلام محمد ومجسد رسالته بحق، وقف أمام مشروع الإرهابيين الذين عاثوا فساداً في الأرض وخراباً، وأخذوا يضربون ‏السلام، ويعتدون على الإنسان، بدعم عالمي من بعض الساسة لأجل بعض الغايات السياسية، فأصدر الفتوى المقدسة بالجهاد الكفائي في 13 حزيران/يونيو 2014 لحمل السلاح وتشكيل الحشد الشّعبي المقدّس، لردّ أعداء الدّين ومن خربوا البلاد وقتلوا العباد، لإنقاذ العراق وشعبه والعالم أجمع من أوباش البشرية وأعداء الإنسانية، كما هي رسالته دوماً، فكان رمز الاعتدال والتّجديد والإخلاص، وكان صاحب الراية في حماية السلم الأهلي في العراق ‏وحماية الأقليات، وكان النجف مركزاً للاعتدال، ومحطة لطالبي السلام والإنسانية على يد المرجع الإسلامي الشيعي الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني.

عندما تقف أمام قامة شامخة كهذه، تركل السّياسة، وتلقي كلّ ما فيها من قذارة خارج هذه السيرة وهذا الكيان، تجد أن السياسة وأربابها لا يصلون إلى طهر هذه القامة وهذا الطود الإسلامي الرفيع وقداسته، فالبابا نشد السلام عند هذا الرجل، وهو الألمعي الذي يعلم مقصده. كيف لا وهو ابن مدرسة المسيح، وصاحب تعاليمه، ‏والباحث عن النور وقبساته! 

لقد أتى لينشد الراحة للعالم أجمع عند حفيد رسول الرحمة والسلام، على الرغم من بشاعة الواقع وبؤس الحقيقة، إلا أن النَفَسَ الربوبي والصبغة الإيمانية تطغى على نفوس هؤلاء، فمثل ‏آية الله السيستاني والبابا مثل من يحمل بيده المصباح، ويجد أناساً يعيشون في الظلام، فيجد نفسه مسؤولاً عن إنارة الطريق لهم، ولا يسمح لنفسه بأن يتخذ منه موقفاً سلبياً، وإن أساؤوا، أو أن يقول ما بالي وبالهم، لما يحملونه من قدس وتقوى، لتكون هذه القمة الروحية مدرسة للأخوة والعيش المشترك أولاً، وتوحيد الصفوف، وتمهيد الأجواء للخلاص والسلام المرتقب والحوار وتحسين العلاقات الإسلامية المسيحية كخطوة ثانية. ويبقى الأساس مناقشة التحديات الكبيرة التي تواجهها الإنسانية في هذا العصر، والدور الذي ينبغي أن تقوم به المرجعيات الدينية والروحية الكبيرة في صناعة السلام.

على مدى ‏45 دقيقة، ظلَّ العالم شاخصاً إلى بيت السيد السيستاني في النجف، مكان اللقاء، لتكون مخرجات الرعوية الدينيّة والأبويّة الإسلاميّة عبر الكرسي الرسولي ومكتب المرجع السيد السيستاني وعياً للمرجعية الإسلامية وشمولية أحاطت كلّ أطياف العالم الإسلامي بـ7 لاءات أرساها السيد المرجع السيد السيستاني، رافضاً مضامينها، فقال: "لا للحصار، ولا للظلم، ولا للفقر، ولا لكبت الحريات الدينية، ولا لغياب العدالة الاجتماعية، ولا للتطبيع"، لتكون هذه التميمة "7 لاءات" أراد ‏آية الله السيستاني إيصالها إلى العالم كلّه عبر البابا، لتظهر حكمة ودقّة ورعاية أخرى لا مثيل لها في 7 كلمات حملها البابا نوراً أراحه روحياً، بعد أن رأى تجسّد الحكمة وثقل مركز نيابة الإمامة وإكمال رسالة النبوة في قائلها.