ما بعد سقوط نظام المفرقعات

ها هي الفقاعة تنفجر. كان يمكن "تنفيسها" لتتهاوى ببطء، كما حدث في دول كثيرة، أمّا هنا، فوجد المواطن نفسه، بين ليلة وضحاها، عارياً بالكامل.

  • سقط نظام المفرقعات؛ نظام الفقاعة؛ نظام الأوهام.
    سقط نظام المفرقعات؛ نظام الفقاعة؛ نظام الأوهام.

حين كنا أطفالاً كنا نحتفل في قريتي بعيدَين دينيَّين، بالخروج إلى أسطح منازلنا، ونبدأ إشعالَ المفرقعات. كانت تُذهلني حماسة أهلي والأقرباء والأصدقاء لهذه السِّهام التي تُصدر أصواتاً مزعجة، وتنبعث منها رائحةُ بارود عفن، وأضواء اصطناعية مكرَّرة. وكنت أنعزل فوق السطج بعيداً عن صخب المبتهِجين، بسبب تفضيلي شراءَ دراجة هوائية بدلاً من هذه المفرقعات، بحيث ألهو الصيف كله بدلاً من هذه الدقائق الخمس فقط. 

ثمّ انتقلت إلى بيروت، لأكتشف أن علاقة الناس بالـ"فرقيع" تتجاوز العيدين الدينيين في قريتنا. فهم إذا فرحوا بزواج أو نجاح مدرسيّ أو تخرُّج "فرقَعوا"، وإذا حزنوا لموت "فرقَعوا"، وإنْ تظاهروا "فرقعوا". والأنكى من هذا كله أنهم يحدِّدون ليلة في كل مهرجان لاستعراض أحدث أنواع المفرقعات المستورَدة باليورو والدولار والين، بينما تخال مَن يشعل فتيل المفرقعات بسيجاره، أنه هو من اخترع هذه الفتوحات السماوية. 

وهنا، كنت قد تجاوزت الحلم بالدراجة الهوائية، لأفكر في ما كان يمكن لهذا العريس أن يفعله بهذه الأموال في مستهل حياته الزوجية، بدلاً من إهدارها على هذا النحو، أو في ما كان يمكن لهذه البلدية أو تلك أن تفعله على صعيد فرز النفايات، أو مساعدة الشبّان الراغبين بتملُّك شقة، أو تأهيل أرض زراعية، أو دعم المشاريع الناشئة، أو تأهيل الشاطئ العام، أو تنظيف مجرى النهر، أو استحداث حديقة عامة، أو تنظيم سوق للمزارعين والحِرَفيين، وغيرها من المشاريع المستدامة، والتي تفيد الناس طوال العام، بدلاً من دقائق الـ"فرقيع" الخَمْس أو العَشْر. 

مع الوقت صرت أكتشف أن للفرقيع أسماء وأشكالاً كثيرة. فَرِشى الدقائق الخَمْس، بالجُملة والمفرّق، تُخَصَّص لإلهاء الناس، بدلاً من الإنفاق الموزون في المكان الصحيح، مع العلم بأن من ينوي السرقة يمكن أن يسرق من فواتير المفرقعات الملغومة، ويمكن أن يسرق أيضاً وطبعاً من تنظيف الشاطئ وضفة النهر وشبكة الصرف الصحي والمشروع الإنتاجي ومعمل فرز نفايات ومعمل انتاج كهرباء. ولماذا، بالتالي، هذا اللإصرار على الإنفاق العبثي؟

تخيَّلوا أن النائب الثوري المستقيل، نعمة افرام، دعا مرة أثرى أثرياء البلد و"نخبتيه" الثقافية والإعلامية إلى احتفال كبير في اليخوت، ليس لتعريفهم إلى تجمُّع الشركات الناشئة التي تدعمها شركاته الكبيرة في انطلاقتها، وإنما للاستمتاع برؤية المفرقعات من البحر، بينما المواطنون عالقون بسياراتهم بعيد إقفال الطرقات ليتمكَّن الوزراء والرؤساء من الوصول إلى الحفل العظيم. أمّا خصمه جوان حبيش، فما كاد يفوز برئاسة بلدية جونية، حتى وضع نصب عينيه إنجازاً نوعياً، يتمثَّل بتنظيم ليلة مفرقعات تُنسي اللبنانيين كلَّ ليالي المفرقعات التي سبقه افرام إلى تنظيمها. هكذا تكون المفرقعات برنامج عمل رسمياً وميدانَ تنافس.

وها هي الفقاعة تنفجر. كان يمكن "تنفيسها" لتتهاوى ببطء، كما حدث في دول كثيرة، أمّا هنا، فوجد المواطن نفسه، بين ليلة وضحاها، عارياً بالكامل: لا مال ولا دواء ولا شبكات أمان اجتماعية ولا حلول بديلة ممكنة ولا إنتاج. وهو مهدَّد في كل لحظة بانقطاع المحروقات والكهرباء. والأكاذيب التي فُضخت هنا كثيرة، أبرزها كذبتا القطاع المصرفي وكبار الصناعيين اللبنانيين، بعد أن تبيَّن أن مصانعهم ليست إلا معامل تفريغ من البراميل المستورَدة الكبيرة، في معلبات ومراطبين (مستورَدة أيضاً) صغيرة. وكل ما كان يصنَّف "صُنع في لبنان" ليس هو في الحقيقة إلاّ "عُلِّبَ في لبنان". تبيَّن أن قطاعَي الوهم هذين بالتحديد ما هما إلاّ مفرقعات في مفرقعات.

مرة أخرى: انفجرت الفقاعة. انتهت "حفلة السطح"، أو همروجة الألعاب النارية، التي تواصلت ربع قرن. وما يحدث اليوم كبير وشديد ومُخيف. لكنْ، لا يُفترض التسرع في التعميم وتوزيع الاستنتاجات: هل كان النظام الاقتصادي – الاجتماعي – السياسي السابق نِظاماً حَسَناً، أو جيداً، أو مقنعاً، حتى تنطلق كل هذه الندبيات عليه؟ هل كان نظامَ عدالة اجتماعية، وعدالة ضريبية، وعدالة اقتصادية، وعدالة مالية، وعدالة سياسية، وعدالة قضائية، حتى يسود كل هذا الوُجوم نتيجة تعثُّره وسقوطه؟ والأهمّ الأهمّ: مَن كان يستفيد فعلياً منه؟ ومَن كان يستفيد من فُتات الفُتات؟

ثمة نظام، لَمْ يبقَ أحد إلاّ وشَكا منه في السنوات القليلة الماضية؛ من حَشوِهِ القطاع العام بالموظفين: من شركات الاحتكار في الدواء والمشتقات النفطية والمواد الغذائية وعالم السيارات؛ من استفادة قلّة قليلة جداً من المواطنين منه. 

هذا النظام، الاجتماعي الاقتصادي التربوي الاستشفائي السياسي القضائي، يتعثّر ويسقط وينهار. الضرر اللاحق بالمواطن العادي كبيرٌ طبعاً، وكذلك الهمّ المحاصِر له، إلاّ أن المواطن العاديَّ لم يكن المستفيدَ الرئيسيَّ من هذا النظام. بل العكس، هذا النظام كان عدواً حقيقياً للمواطن غير المستزلِم لزعيم. لذلك، يمكن القول إن هناك أكثرَ من قلق محقّ في ما يخص ودائع الناس العاديين، وقلق من تدبُّر احتياجاتهم الأساسية في هذه الأيام الصعبة. لكنّ هذا لا يعني أبداً أن ما يحدث سيئ بالمطلق، أو جيد بالمطلق. الأمر رهن بتحسُّب الناس لما سيجيء بعده.

كان هذا النظام كابوساً حقيقياً، وقد انزاحَ عن صدور من يُفترض بهم أنهم كانوا يَشْكُون منه. لكن ما بعده قد يكون أسوأ منه، إنْ لم تغادر أغلبية اللبنانيين سلوكَ الانبهار بالمفرقعات والإلهاءات الكثيرة. سقوطه مصيبة للمنتَفِعِين منه، لا لضحاياه الكثر. ولا يمكن لهذا السقوط أن يكون كارثياً بالنسبة إلى المواطنين اللبنانيين، إلاّ إذا هم سمحوا بقيامة نظام مثله، أو أسوأ منه، فوق أنقاضه. والقرار هنا ليس لسياسيّ أو زعيم أو سِفارة. لا شيء أسهلَ من تحميل الآخر مسؤولية، لكنْ مَن سيدفع الثمن في النهاية هو المواطن الذي لا يعتبر نفسه المسؤول الأول والأخير عن مستقبله، ويتصرف على هذا الأساس، في الشارع والصندوق الانتخابيّ ومواقع التواصل الاجتماعي. والأكيد، في هذا السياق، أن تعميم حالة الإحباط والتقريف والتيئيس لا يفيد أحداً سوى مَن يعمل على إعادة إنتاج النظام نفسه، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وقضائياً، بعد انهيار النظام الحالي بالكامل.

سقط نظام المفرقعات؛ نظام الفقاعة؛ نظام الأوهام. طبيعي أن يشعر الناس بالقلق والخوف، لكنّ غريزة البقاء لا تقف عادة عند حدود القلق والخوف، وإنما تنطلق غرائزياً في البحث عما يمكن أن تفعله لمواصلة الحياة. سيقوم نظام جديد فوق أنقاض نظام "الفرقيع"؛ يُفترض بالمواطنين اللبنانيين أنْ يحدِّدوا أساسه وشكله ودوره. ولا شيء هنا اسمه مواطن مسؤول، ومواطن غير مسؤول. الكل مسؤول.