الهجوم الإسرائيلي: خطوةٌ محسوبةٌ أم مُغامَرة انتخابية؟

لكن السؤال الأهم الآن هو كيف ستتعامل حكومة العدو مع الردّ القادِم لا محالة من قِبَلِ حزب الله، هل تصمت كما جرى عام 2015 وتخسر المزيد مما تسمّيه بهيبة الردع؟ أم سينزلق نتنياهو بمُغامرته إلى حربٍ شاملةٍ، تبدو أطراف محور المقاومة مُستعِدَّة لها أكثر من أيّ وقتٍ مضى، وإن كانت لا تتمنّى وقوعها قبل تصفية آخر ما تبقّى من جيوبٍ إرهابيةٍ وانفصاليةٍ على الأرض السورية.

الصورة من موقع سقوط الطائرتين المسيرتين في الضاحية الجنوبية لبيروت (أ ف ب)

أقدمت إسرائيل خلال الأيام الماضية على أخطر محاولة للتحايُل على  قواعد الاشتباك التي أرساها توازُن الرُعب الناتِج من حرب تموز عام 2006 بينها وبين حزب الله، وذلك من خلال العملية الهجومية الفاشِلة التي نفَّذتها طائرتان مُسيَّرتان في الضاحية الجنوبية، ومن ثم عملية قصف مواقع تابعة للجبهة الشعبية القيادة العامة في سلسلة لبنان الشرقية ليلة الأحد- الإثنين الماضية، وهي العملية التي تمَّت أيضاً بواسطة طائرات مُسيَّرة، كما أقدمت بشكلٍ مُتزامنٍ على أول استهداف لمُقاتلي حزب الله على الأرض السورية ، وذلك منذ العام 2015 عندما نفَّذت عملية اغتيال مجموعة من مُقاتلي الحزب في منطقة مزارع الأمل بالقرب من القنيطرة، وعملية اغتيال المُناضِل سمير القنطار في جرمانا،  حينها تلقَّت إسرائيل ردّاً من قِبَل حزب الله على كلتا العمليتين بهجومين أسقطا عدداً من جنودها  صَرْعى في مزارع شبعا، ومن ثم امتنعت عن الردّ، وتجنَّبت منذ ذلك الوقت استهداف عناصر حزب الله على الأرض السورية، فهل ثمّة ما تغيّر في موازين القوى وأقنع حكومة العدو بأن ما كان غير مُتاح من دون توقّع ردّ مؤلِم بالأمس صار غير ذلك اليوم؟

في الواقع إن أيّ استقراء لحاصِل المواجهات الساخِنة على طول الإقليم بين محور المقاومة من جهة، وحلف الولايات المتحدة وأتباعها الإقليميين على الجهة المُقابلة، يظهر أن التغيّر في موازين القوى سار خلال السنوات الماضية وبشكلٍ ثابتٍ بالاتجاه المُعاكِس تماماً لما راهَنت عليه إسرائيل، وذلك بدءاً من الساحة السورية ساحة الصِراع الأقرب، حيث بَنَت إسرائيل الكثير من الأحلام الوردية على إمكانية أن تنجح الجماعات المُتطرِّفة المدعومة دولياً وإقليمياً بأن تُريحها من الدولة الداعِمة لحركات المقاومة، ومن ثم اصطدمت الأحلام الصهيونية بواقع تثبيت الدولة السورية لوجودها، بل وبحصولها على حليفٍ دولي كروسيا قام بتطوير دفاعاتها الجوية، إلى حد تجاوز الخط الأحمر المُتعلِّق بحصول سوريا على نظام دفاعٍ جوي حديثٍ بعيد المدى "إس300" وهو ما حُرِمَت منه طويلاً.

أما في العراق المجاوِر فقد أدَّى التحدّي الذي مثّله "داعش" إلى ظهور جيشٍ مُسلّحٍ من رُبع مليون مُقاتِل خاضوا أشرس المعارك التي أدَّت إلى تحرير الأرض العراقية من التنظيم المُتطرِّف، وامتدّ دورهم إلى مُساندة الدولة السورية في مواجهة الجماعات التكفيرية المدعومة من إسرائيل، وهذا الجيش مُنتمٍ عقائدياً وإيديولوجياً إلى محور المقاومة بشكلٍ كاملٍ، وهو متشوِّق لإخراج ما تبقَّى من قواتٍ عسكريةٍ أميركيةٍ من العراق، وهي قوات يتراوح عديدها بين 15 إلى 20 ألف جندي، بينما يتطلَّب فَرْض السيطرة العسكرية على هذا البلد ما لا يقلّ عن 300 ألف جندي، وترافق تراخي القبضة العسكرية الأميركية على العراق،  مع تآكُل النفوذ الأميركي في أوساط النُخبة السياسية الحاكِمة له، حتى وصل هذا التآكُل إلى درجة اضطرار واشنطن للتغاضي عن خَرْق بغداد للعقوبات الأميركية على إيران في ذروة المواجهة معها.

إن التحوّلات الاستراتيجية التي شهدتها الساحة العراقية لها معنى واحد بالنسبة إلى تل أبيب، هو استعادة العراق لدوره كعُمقٍ استراتيجي وخزانٍ بشري داعِمٍ لسوريا في أية مواجهة عسكرية قادمة مع العدو الصهيوني، تماماً كما كانت عليه الحال في حرب تشرين عام 1973، قبل القطيعة بين البلدين، وما تلاها من سقوط العراق تحت الاحتلال الأميركي عام 2003.

كما شكَّلت الساحة اليمنية ميدان اختبار للعديد من صنوف الأسلحة الهجومية والدفاعية التي يمتلكها كل من المحورين، وكانت النتيجة مُفجِعة للإسرائيليين، إذ فشلت منظومة الباتريوت الدفاعية والتي يُديرها خُبراء أميركيون في حماية الأجواء السعودية ليس فقط من الصواريخ البالستية التي انهالت على أهدافٍ استراتيجيةٍ وعسكريةٍ تبعُد ألف كم وتزيد عن اليمن، بل إنها فشلت أيضاً في اعتراض الطائرات المُسيَّرة اليمنية التي تمكَّنت من قصف محطّات ضخّ وتوزيع النفط وأنابيب نقله،  ومواقع شركة آرامكو السعودية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن حزب الله يمتلك من الإمكانيات أضعاف ما يمتلكه اليمن المُحاصَر، فما أظهرته جماعة أنصار الله اليمنية من بأسٍ في الضربات الجوية الصاروخية والجوية التي وجّهتها للسعودية، ليس سوى لمحة بسيطة عما يمكن أن يوجّهه حزب الله للأهداف الإسرائيلية من ضرباتٍ في حال اندلعت المواجهة معه، وهذا ليس موضِع شكّ حتى لدى الخُبراء  والمُعلّقين الإسرائيليين أنفسهم.

ليتمّ تتويج كل ما سبق من خلال المواجهة التي شهِدها مضيق هرمز خلال الأشهر القليلة الماضية، والتي أثبتت بما لا يدَع مجالاً للشكّ عَجْز الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين عن خوض أية مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران، ونحن لا نتحدَّث هنا عن حربٍ شاملةٍ لإسقاط النظام لطالما حلمت بها إسرائيل، بل نتحدَّث عن العجز حتى عن توجيه ضربةٍ عسكريةٍ محدودةٍ، وذلك رغم رَفْع إيران لمستوى التحدّي إلى أقصاه مع إسقاط المُسيَّرة الأميركية، واحتجاز ناقلة النفط البريطانية، مع ما وفّرته ما سُمّي بحرب الناقلات من ذريعةٍ مناسبةٍ لترامب لتنفيذ تهديداته العسكرية ضد طهران، لو أنه امتلك وسائل اتّقاء ردّ الفعل الإيراني.

بناء على الاستقراء السابق لموازين القوى في مختلف ساحات الصراع الإقليمية، لا يبدو الاجراء الإسرائيلي الأخير مبنياً على حساباتٍ عقلانيةٍ، بل يبدو أقرب إلى المُغامَرة التي يُقدِم عليها نتنياهو، تحت ضغط  ما يواجهه من أزمة فشله في تشكيل حكومةٍ جديدةٍ، وقضايا الفساد المُثارة ضدّه، وهو ما يُهدِّده بمصير أولمرت بطل حرب تموز الخائِب، الذي انتهى وراء قُضبان السجن، إذ إن التحالف مع المُتطرِّف ليبرمان في الانتخابات المُعادة هو الفرصة الوحيدة المُتاحة أمام نتنياهو لتجنّب ذلك المصير البائِس، وليبرمان هو وزير دفاع نتنياهو السابق الذي استقال بسبب ما اعتبره ضعف الردّ الإسرائيلي على تكرار عمليات قصف تل أبيب التي نفَّذتها المقاومة الفلسطينية من غزَّة.

لكن السؤال الأهم الآن هو كيف ستتعامل حكومة العدو مع الردّ القادِم لا محالة من قِبَلِ حزب الله، هل تصمت كما جرى عام 2015 وتخسر المزيد مما تسمّيه بهيبة الردع؟ أم سينزلق نتنياهو بمُغامرته إلى حربٍ شاملةٍ، تبدو أطراف محور المقاومة مُستعِدَّة لها أكثر من أيّ وقتٍ مضى، وإن كانت لا تتمنّى وقوعها قبل تصفية آخر ما تبقّى من جيوبٍ إرهابيةٍ وانفصاليةٍ على الأرض السورية.