الاستراتيجية الأميركية بعد بولتون

أغدق بولتون بالوعود على ترامب بابتزاز التنازلات من محور المقاومة عبر الانسحاب من الاتفاق النووي وبتطبيق الحُزَم المُتتالية من العقوبات. إلاّ أن تلك الوعود اصطدمت بقرارٍ مُضاد من المحور بالردّ في الساحة التي يمتلك التفوّق فيها، وهي ساحة الميدان العسكري، وذلك عبر ضرب عَصَب الاقتصاد الرأسمالي الغربي والمُتمثّل في صناعة النفط السعودية،

بعض التحليلات الإعلامية المُغرِقة في استهانتها بذكاء المُتابع أرجعت قرار دونالد ترامب المُتعلّق بإقالة جون بولتون إلى خلافٍ في وجهات النظر شابَ العلاقة بين الرجلين، وكأن توجّهات بولتون المُتطرِّفة تجاه ملفات السياسة الخارجية الأميركية، ودوره كأحد أعضاء فريق المُحافظين الجُدُد الذي حرَّض على حربيّ العراق 2003 وتموز 2006 كانت أموراً مجهولةً بالنسبة إلى ترامب عندما اتّخذ قرار توليته ما سبق أن تولّته أسماء لامِعة في التاريخ السياسي الأميركي مثل كسينجر مستشار الأمن القومي بين عامي 1969-1975، وبريجنسكي بين 1977-،1981 ، وكأن اختيار ترامب لبولتون لم يكن ضمن سياق التصعيد والتهويل الذي حاول المُضيّ به في مواجهة خصوم الولايات المتحدة حول العالم من بكين إلى طهران إلى كراكاس، وذلك إثر موجة الاتهامات الداخلية له بالضعف وبمُحاباة موسكو بعد دخوله البيت الأبيض.
بالنظر إلى شخصية دونالد ترامب النرجسيّة، وإلى الصلاحيات التي يُعطيها الدستور الأميركي للرئيس في ما يخصّ اختيار مُستشاره لشؤون الأمن القومي وإمكانية إقالته من دون الحاجة للرجوع إلى الكونغرس، فإننا لا نحتاج إلى كثيرٍ من التفكير حتى نستنتج بأن ترامب جلس مع بولتون طويلاً قبل عام ونصف العام مُستمعاً لتقييماته لوضع خصوم واشنطن الدوليين، ولما يمكن الحصول عليه من تنازلات عبر الضغط عليهم باستخدام سلاح الحرب المالية، وتكتيكات دعم المعارضة، ومحاولة قَضْم الهيبة عبر التحرّش العسكري المُنخفِض المستوى، من دون الوصول بالتأكيد إلى خيار المواجهة العسكرية الشاملة، الذي كان مُستبعداً تماماً من قِبَل ترامب كما أعلن خلال حملته الانتخابية، ومُستبعَداً قبل ذلك من المؤسّسة العسكرية الأميركية، التي أعلمت جورج بوش الإبن في بداية ولايته الثانية أن الجيش الأميركي غير قادر على تكرار مغامرة عسكرية جديدة بعد تجربتيّ العراق وأفغانستان المُكلفتين، اللتين قدَّر البنتاغون أن الولايات المتحدة بحاجة إلى عشرين عاماً على الأقل قبل التعافي من آثارهما الكارثية.
أغدق بولتون بالوعود على ترامب بابتزاز التنازلات من محور المقاومة عبر الانسحاب من الاتفاق النووي مع طهران وبتطبيق الحُزَم المُتتالية من العقوبات، ومحاولات الخنق الاقتصادي بحق أطراف المحور، اصطدمت تلك الوعود بقرارٍ مُضاد من المحور بالردّ في الساحة التي يمتلك التفوّق فيها، وهي ساحة الميدان العسكري، وذلك عبر ضرب عَصَب الاقتصاد الرأسمالي الغربي والمُتمثّل في صناعة النفط السعودية، التي تلقّت خلال الأشهر الماضية جملة من الصفعات لم يسبق أن سجَّل التاريخ لها مثيلاً، خلال كل الصراعات التي خاضتها السعودية في المنطقة خدمة لمصالح السيّد الأميركي، لتثبت هذه العمليات التي نفّذت بأيدي الشعب اليمني المظلوم، القدرة التكنولوجية المُتقدّمة التي بات محور المقاومة يتمتّع بها، في مواجهة أحدث أنظمة الدفاع الجوي الأميركية التي ابتاعتها السعودية، لكنها لم تفلح في حماية لا الأنابيب الاستراتيجية بين آبار النفط وميناء ينبع على البحر الأحمر، وهي السبيل الوحيد لتصدير النفط السعودي في حال أغلقت إيران مضيق هرمز، ولا هي أفلحت حتى في حماية عاصمة مُنشآت صناعة النفط السعودية المُتمثّلة في مجمع أرامكو في "بقيق".
على التوازي مع ذلك واجهت إيران محاولات التحرّش العسكري من قِبَل الولايات المتحدة وحلفائها، بعمليتيّ إسقاط الطائرة المُسيَّرة الأميركية واحتجاز ناقلة النفط البريطانية التي أُفرِج عن ستة من بحارتها مقابل الإفراج عن ناقلة النفط الإيرانية التي كانت مُحتَجزة في جبل طارق قبل أن تواصل تحرّكها نحو سوريا، فيما بقيت الناقلة البريطانية مُحتَجزة إلى اليوم، لتشكّل العمليتان قَضْماً إضافياً للهيبة العسكرية الأميركية في المنطقة.
كما لم تؤد مُناشدات ترامب المُتتالية عبر "تويتر" مدعومةً بقانون العقوبات بحق سوريا "سيزر" إلى ثني الدولة السورية عن متابعة عملياتها لتحرير الجَيْب السوري الأخير الذي لا تزال الجماعات الإرهابية المدعومة من المخابرات الغربية تسيطر عليه في إدلب ولو على مراحل.
ثم لم تنتج الاستعانة بالاحتياطي العسكري الأخير لدى المحور الأميركي والمُتمثّل بإسرائيل، أي تغيير في معادلات القوى، بل أدَّت وبشكلٍ مُعاكسٍ إلى إثبات محدودية تأثير الدور العسكري الإسرائيلي، مع تلقّي الجيش الصهيوني للصفعة الأخيرة من قِبَل حزب الله في قاعدة أفيفيم العسكرية الإسرائيلية، والاكتفاء بإخلاء القاعدة كردٍّ على عملية حزب الله، حيث راقب العالم في مشهدٍ ذي دلالة، مراسلة روسيا اليوم تتجوَّل بحريةٍ في القاعدة العسكرية الإسرائيلية الخالية تماماً بعد فرار الجنود الإسرائيليين منها، ليُقدِّم ذلك بُرهاناً جديداً على مقولة “أوَهْن من بيت العنكبوت”.
لقد وقف "جون بولتون" في حزيران عام 2018 أمام وفد من المعارضة الإيرانية ليبشّر المعارضين الإيرانيين بأن الانسحاب من الاتفاق النووي مع طهران، والعقوبات الاقتصادية الأميركية القادمة ضدّها، سيؤدّيان إلى إسقاط النظام الإيراني خلال عام واحد فقط، لكن بولتون اضطر بعد عام وبضعة أشهر من تلك الواقعة إلى مغادرة منصبه في ما يشبه عملية الطرد، فيما انتقل ترامب نفسه من لهجة التصعيد والوعيد تجاه طهران إلى ما يشبه توسّل لقاء قمّة مع الرئيس الإيراني من دون شروط مُسبَقة، بناء على ما سبق يساعدنا حال التخبّط الأميركي بين التصعيد والتهديد تارةً وتوسّل التفاوض تارةً أخرى، في الإجابة على السؤال المُحيِّر عن (ماهي الاستراتيجية الأميركية في منطقتنا والعالم؟)، فمن الواضح أن واشنطن لا تمتلك أية استراتيجية واضحة بديلة بعد سقوط استراتيجيتها القديمة إثر فشل رهاناتها في حروب أفغانستان والعراق ولبنان وسوريا واليمن، يعود ذلك لعجزها عن تحمّل كلفة وأعباء خوض مواجهة عسكرية مباشرة جديدة من جهة، وعجزها من جهةٍ أخرى عن التواضع والتخلّي عن أهدافها التسلّطية والتنازُل عن دور شرطي العالم الذي باتت غير قادرة على ممارسته عملياً، وذلك من أجل التوصّل إلى تسويةٍ عقلانيةٍ في مُنتصف الطريق مع خصومها الذين يبدون أقوى منها داخل أوطانهم وفي مجالهم الإقليمي والحيوي.