البيت أجمل من الطريق إليه

كبرت على فكرة أن كل شيء أكثر مما أستحقّ، وأقل مما أتمنى. جهدت في تعويض فجوة الخسارة بانفصال والديّ بطرق كثيرة، وكلها كانت تعويضات لا تكفي.

قارعتُ نفسي حتى التّعب. استغرقتُ وقتاً طويلاً بدور الحَكَم الملازم والجلّاد. بحثت عن البيت في كل الأماكن. البيت الذي ألجأ إليه في آخر اليوم ليسترجع كل خساراتي، وليعوّض عنها بدفء التفافه حول برد الروح. لهثت في بحثي الطويل الذي قلص من أيام الطمأنينة. كنت أبحث عن البيت، عن أمي، عن أبي، عن أخوتي، عن شجار العائلة العادي، عن طاولة الطعام، عن مقارعة الأب لعناد إبنه، عن مجالسة الأب أيضاً لابنته في العشيّات.

لكني بردت كثيراً في العراء بحثاً عن طريق البيت.

كان عمراً طويلاً مليئاً بالأحداث والتفاصيل والتجارب. عمرٌ محفوف بالخوف والحزن والفرح والأمل. لكنه باهر في جعل سبله متشعبة إلى هذا الحدّ. من المارّين فيه إلى كل الإنجازات الصغيرة والإستحقاقات الكبيرة. أقول في هذه اللحظة، إنني عشت بالطريقة التي تشبهني مرات قليلة، وبالطريقة التي لا تشبهني مرات كثيرة. هذا قبل أن أتعرف إليّ في عيادة المعالجة النفسيّة.

جئتها محمّلة بندوب كثيرة، من الطفولة إلى تراكمات الكبر وصولاً إلى التجربة الأخيرة/ العنصر المفجّر، والتي ساقتني بقوة إليها، وعرّت الفجوة الكبيرة في قلبي. الفجوة التي عانيت من مآسي تبعاتها لسنوات طويلة.

لم أعش طفولة عادية، كبرت قبل عمري بكثير، خسرت وبكيت وتأملت وراقبت وأنا ما زلت في العاشرة. أتذكر كيف كنت أعود في باص المدرسة إلى البيت، سارحة خلف زجاج النافذة بالأشياء التي خسرتها ولن أجدها حين أصل. تأملت كثيراً لكني لم أكن أفهم. بكيت مرة في الصف بكاء هستيرياً أثناء حصة اللغة العربية، بينما كان رفاقي ينجزون ما طلبته المعلمة. كنت سارحة بأشياء لا أذكرها، وبكيت. وكأن وخز الفجوة حين يضغط على القلب يحتاج مخرجاً، فانهمرت دموعي.

أخرجوني من الصف إلى غرفة المرشدة الاجتماعية، أذكر كم كانت ودودة، أخبرتها بما أشعر به فساقت جملها إليّ بوداعة، حتى شعرت بأن حزني قد تلاشى.

كبرت على فكرة أن كل شيء أكثر مما أستحقّ، وأقل مما أتمنى. كان ذلك نتيجة من نتائج ما جهدت من أجله، تعويض فجوة الخسارة بانفصال والديّ بطرق شتّى، وكلها كانت محاولات لا تكفي. شيء ما يصنعه الإنفصال في روح الإبنة، شيء في أصل تكوينها، كشرخ وجوديّ كبير.

وكبرت أيضاً على فكرة أن البيت بعيد.

لم يكن الإنفصال بحد ذاته المشكلة، بل تبعاته. عشت أياماً متراكمة ببتر أصابني، لأن شخصين وحدهما يقدمان لك الدنيا بلا مقابل، كما أتيت إليها من دون اختيار. شخصان يصنعان لك الأمان الذي تبني عليه حياتك وتجاربك كلها، شخصان عليك التأقلم بفكرة انفصالهما والتعايش مع كل تبعات ذلك. ولم أدرك معنى ذلك سوى في المنامات التي حدّثتني عن الأثر. منامات شاهدت فيها العالم الموازي الذي خسرته.

أن يُخلق في داخلك شعور بأنك تستكثر أي شيء يقدم إليك من أي أحد، أن تستغرب بالثناء الجميل، أن تقنع نفسك بأنك تستحق، بأنك استثنائي، وبأنك على قدر كافٍ من الجمال ليأتي العالم إليك راغباً، لا أن تسعى إلى كل شيء.

حصلت مع تراكم الوقت على أشياء كثيرة أجدها نعماً يربت بها الله على كتفي لئلا أستوحش خساراتي. كنشوة العمل ودفء الحبّ وغمرة الصداقات، والنظرة العميقة للذات وتقديرها وإدراك فرادتها، وتصديق دهشة الموهبة في عيون الآخرين، ورفع قيمة ما تختزنه روحي وما تقدمه يداي. كلها أشياء كانت موجودة في حياتي، لكنها لم تكن بالقدر الكافي المترسب في قناعاتي لتُسهل عليّ حياتي. كان عليّ أن أثق بنفسي أكثر من ذلك. لكنّي تداركت ذلك بعد وقت طويل، ربما، لكنّه تداركٌ في أوانه. 

فجوة عرّتها تجربة/ العنصر المفجر. وكانت عاطفية.

أن تقرع جرس الباب وتنتظر أن يُفتح لك بسرعة البرق لتدخل وتجلس وتحكي وتنتظر حلاً يحرر روحك من وجع وخز الفجوة.

لكن ٢٨ عاماً ليسوا ببساطة ٤٥ دقيقة على كرسيّ خشبيّ عند المعالجة النفسية يروي فيها الشخص حياته، ويخرج بالحل.

تتابعت الجلسات، وتتابع "النبش". بعد كل جلسة كنت أخرج بألف سؤال، ما الذي يتغير فيّ بهذه السرعة؟ كيف أنظر إلى العالم بهذا الاختلاف الجذري؟ كيف جهلت كل النقاط التي حكت عنها المعالجة ولم أصدقها يوماً. وللصراحة، كنت أعلم كل شيء قالته، لكنني كنت بحاجة إلى هذا الشخص الغريب الذي أجلس قبالته ويحدثني عن نفسي وأدفع له مبلغاً لقاء ذلك. هي ليست صديقتي لأقوى بها على أشياء أعرفها، وبعد وقت قصير يزول أثر حديثها. هي في ساعة عمل، "تنبش" وتتلقى أجراً، وهذا للحقيقة شيء مريح.

تحدثنا كثيراً عن الشخص الذي أحببته، عن العائلة والأمان، عن العمل، عن البيت وفكرته، عن المظهر، وعن الشيء الأهم الذي غيّرني وجعلني الشخص الذي حلمت به طويلاً، أن أتوقف عن الانتظار. تعلمت كيف أصنع بنفسي خيوطاً للشرخ العتيق، لا انتظار أن يمدها إليّ أحد. كيف أحب المرآة وأتصالح معها، كيف أحتوي نفسي لأعوض الأمان المفقود. والأخيرة هي الأصعب، لكنها الأمتع والأجمل في التغيير الذي حلّ بي. أن تحب نفسك وتقدرها، أن تصقل مواهبك وتغذي عقلك، أن تضحك كثيراً وتحزن بالقدر الإنساني الذي يقلص من رتابة الوقت. أن تحب أكثر وتهتم أقل... وسيطرح العالم نفسه بين يديك بعد ذلك بلا أي جهد. ستحتويك قوتك، ويحيطك الله برأفة بالغة. الله القوة الكامنة في الروح، المختبئ في الفجوات. الله الذي يمدّ اليد ليعينك على تعبك. الله الذي يحبّ سؤال القوة، فلا تُحصّنك الأخيرة إلا حين تطلبها منه يقيناً بذات يده.

الله الأمان المطلق الذي سوّرني وحرر قلبي من حاجة أيّ أحد. تصالحت برفقته مع كل شيء ومع الجميع. مع الفرح المجاني ومع الأسى. مع نقصي الذي أجده الآن كنزاً حين عوضت عنه بأشياء كثيرة أحبها. وألطفها في قلبي مساعدة الذين أحبهم لينهضوا مثلي، ويحققوا ما يحلمون به. في محاولة لتخفيف الوحشة عن وحدة العالم.

...ولم أتوقف في هذه الرحلة عن استجداء طريق البيت.

لكني بعد ذلك كلّه وجدته، بعد تجارب ورحلة علاج في العيادة النفسيّة وتصالح مع الذات والخسارات. وجدته لكن لم أصل بعد، شيء واحد يؤخرني عنه، هو أنّي مشغولة بأن أعبّده بالجمال الذي تخيلته طوال حياتي، أشيده بالفكرة تتراكم فوق الفكرة، لئلا تبقى مترسخة في بالي مقولة إن "الطريق إلى البيت أجمل من البيت". وجدت طريق البيت، ووجدت البيت أيضاً. وأدركت أنه كان مجرد فكرة في الرأس، يُقرّبك منه أن تألف خساراتك ولا تهرب منها إلى تعويضات خاوية فتُغربك عن نفسك ولا تعود تألف مكاناً. 

في الحقيقة كان لديّ بيت، لكني بفقدان الأمان فقدت شعور ألفته. وها هو أمامي الآن يُشيّد بدفء سيحتويني، وسأكبر فيه من جديد كما حلمت منذ صغري. وسأعيش فيه تفاصيل البنت التي يقارعها أهلها لأشياء لا يسجلها الناس ضمن الأحداث اليومية المهمة. أريد صناعة البيت العادي الذي أكون فيه كما أنا، البيت الذي تغيرت فكرته مع تغير نظرتي إلى ذاتي، ذاك الذي يكون الشخص فيه بلا تكلّف، يحبّ نفسه على حالها، ويفرح بزوّاره الذين سيقصدونه حتماً للدفء الذي سيمليه على أرواحهم. البيت الذي يقصدك إليه من تحبّ. بعدما كنت قد تغربت عن هذا الفعل لمجرد أني استكثرت أشياء على نفسي في الماضي. 

هو ليس بيتاً جديداً بالفعل، إنما هو عودة الروح من غربتها. هو الفجوة التي أتصالح معها، وهو ما أعمره فيّ لا ما يُعمَّر بالحجارة، وهو ما أحبه باستثنائية وجودي.. وهو البيت الذي يحتويه.