سوريا بين آفات الماضي وتحديات المستقبل

مَن يتابع خطابات ومُقابلات الرئيس الأسد يستنتج بأن شخصية الطبيب تطغى على حديثه، فهو لا يُحابي أحداً ويتحدَّث بمُنتهى الصراحة والوضوح، وهذا الأمر مهم جداً لأنه يوضح لنا خططه الحالية والمستقبلية.

  • سوريا بين آفات الماضي وتحديات المستقبل
    الدولة السورية في العقد القادم ستقف أمام تحديات كبيرة أهمها إعادة الإعمار

عقد جديد تدخله سوريا اليوم، والتساؤل المهم هل ستدخله بأخطاء الماضي وكوارثه أم من دونها؟

الدولة السورية من أوائل الدول العربية التي اعتمدت الخطط الخمسية وهذا الأمر كان مُتّبعاً منذ الخمسينات والستينات، وتعزَّزت هذه الخِطط في عهد الرئيس الراحِل حافظ الأسد، الذي يشهد له الجميع أنه لولا الخِطط الخمسية الاستراتيجية التي وضِعَت في عهده لما صمدت الدولة أمام الحصارات الكثيرة والمُتعدِّدة ضد دمشق.

وهنا ملاحظة يجب أن نذكرها وهي أن سوريا الدولة العربية الوحيدة التي تُعاني من الحصار الأميركي منذ عام 1955 أي بعد تأسيس "حلف بغداد"، لأنها وقفت ضدّه وضد سياساته المُعادية للدول العربية والمُحابية للاحتلال الإسرائيلي.

لنعد إلى موضوعنا الرئيسي: ما هي خطط الدولة السورية للمستقبل؟ ما أساسيّاتها في العقد الجديد؟

الرئيس السوري بشّار الأسد برأيي من أكثر الزعماء العرب والمنطقة  ذكاءً، فلم يهرب ويتخلّى عن مسؤولياته الوطنية والقومية عندما شُنَّت الحرب ضد دولته، وصمد في عاصمته ولم يغادرها بالرغم من أن جيوش الإرهابيين كانت على بُعد عدَّة كيلومترات منه.

وذكاؤه ساعده في إدارة أمور البلاد في ظلّ هذه الحرب إنسانياً وعسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وجعل من سوريا الدولة الصغيرة نوعاً ما بالنسبة إلى الدول الأخرى، جعلها مثل (جبل الأعراف) يوم القيامة وجعلها الحجر الأساس في مستقبل المنطقة والعالم ووضح التكتلات الدولية.

ولكن ماذا عن العقد القادم وما هي خِطط الرئيس الأسد وأفكاره؟ هل الخطط الخمسية ستكون مبنية على الاكتفاء من القمح والمحروقات، أم ستكون مبنية على أمورٍ حسيّةٍ تفيد المواطن أكثر؟

مَن يتابع خطابات ومُقابلات الرئيس الأسد يستنتج بأن شخصية الطبيب تطغى على حديثه، فهو لا يُحابي أحداً ويتحدَّث بمُنتهى الصراحة والوضوح، وهذا الأمر مهم جداً لأنه يوضح لنا خططه الحالية والمستقبلية. وخلال العام الماضي اتخذت القيادة في دمشق قرارات مهمّة ومفصلية مثل مُلاحقة رجال الأعمال الفاسدين الذين كانوا يُحسَبون لفترة طويلة على الدولة ويدَّعون أنهم جزء منها، وفي ليلةٍ وضحاها وضعت الأيدي على أموال شخصيات مهمة وأسماء بارزة ورنّانة في دمشق وتمَّت مُلاحقتهم بتِهَم الفساد، وهو ما يوضح بأن الاستراتيجية الجديدة هي مُكافحة الأموال المشبوهة، ولكن هل هذا يكفي؟

الشارع السوري بات مُتعباً جداً من إفرازات الأزمة ومواقع التواصُل الاجتماعي لم تعد تخفي شيئاً وخصوصاً الفاسدين. لأن مَن يقف على الدور في انتظار المحروقات أو على الجبهة وهو عسكري منذ 8 سنوات، يرى مواقع التواصُل الاجتماعي ويرى إبن فلان وإبنة فلان في فرنسا أو في دبي أو في  بيروت أو حتى في دمشق، ويراهم يقودون السيارات الفارِهة ويُحيون السهرات الصاخِبة، ويعلم الجميع أن أموال ذويهم أتت من خلفيّاتٍ مشبوهةٍ سواء بالفساد أو التهريب ومن ثم يبيعون عليهم الوطنيات.

وللأسف هذه الشريحة باتت مُستشرية في المجتمع ولا سمح الله قد تؤدّي إلى شَرْخٍ كبيرٍ فيه يصعب إعادته لما كان عليه من قبل، إن لم يتم وضع حد لها ومكافحتها ومُساءلة ذوي هؤلاء: من أين لكم هذا؟

ومُكافحة الفساد الآن عملية مهمة جداً وحسَّاسة بنفس الوقت خصوصاً في ظلّ الحصار الأميركي على سوريا، لذلك فإن هذه العملية بالإضافة إلى وقف هَدْر المال العام واسترجاع أموال الدولة أمور ستُساهم في التغلّب على الحصار الأميركي.

الدولة السورية في العقد القادم ستقف أمام تحديات كبيرة أهمها إعادة الإعمار، ولكن السؤال: من أين يجب أن نبدأ؟

أساس الإعمار ليس الحجر سواء منازل أو مدارس أو حتى أماكن عبادة، بل أساسها إعمار البشر لأن الشَرْخ الكبير الذي أوجدته الحرب أكبر من أن يتم ترميمه بعقدٍ واحد، ومن الضروري أن يتم التركيز على إزالة الفوارِق بين الطبقات لأن هذه الفوارِق قد تؤدَّي إلى كوارث مستقبلية وإفشال الدولة ككل.

عملية إعادة الإعمار ليست إيجاد المال والأيدي العاملة فقط، بل هي إيجاد المسؤول المناسب لوضعه في مكانه الصحيح، لا أن يُبنى الأمر على المحسوبيات والصفقات المشبوهة. ومن أهم التحدّيات التي تواجه الدولة في هذا العقد هي الوضوح والشفافية، فمثلاً عندما تكون هناك أزمة في المحروقات لا يوجد مسؤول يخرج ويُصرِّح ما سبب الأزمة الرئيسي، ويبقى الشارع أمام تفسيرات وأخبار من مواقع التواصل الاجتماعي عدد كبير منها مغلوط وغير صحيح.

هذا العقد سيشهد بالتأكيد عودة معظم مَن وقفوا في وجه الدولة السورية وحرَّضوا على العنف والإرهاب وفعلياً بدأ عدد منهم بالعودة سواء كانوا سياسيين أو فنانين أو إعلاميين، وفتحت لهم القنوات التلفزيونية لكي يتحدّثوا. فمن المهم أن تكون هناك طريقة للتواصُل بين الدولة والشارع لتوضِح للناس سبب عودة هؤلاء وفتح الهواء الإعلامي لهم وإعطائهم مزايا كبيرة، لأن هذا حق الشعب على الدولة: لماذا كل هذا يُعطى لمَن عادوا الآن.

في النهاية، البشر لديهم مشاعر وأحاسيس وليسوا "روبوتات" يُعطى لهم الأمر فينفّذون من دون تفكير. نحن نقصد المُحرّضين على سَفْك الدماء، وليس اللاجئين، لأن اللاجئ هذا وطنه ويحق له العودة متى شاء، والمُعارِض أيضاً هذا وطنه ولا ينكره أحد عليه، أما المُحرِّض على سفك الدم السوري، فنحتاج إلى الوقوف عنده قليلاً ولنفهم أسباب عودته والطريقة المُبالَغ فيها في الترحيب فيه.

الجيش هو نقطة مهمة ومفصلية في العقد القادم، ومن المهم وضع استراتيجية لدَمْج العساكر المُسرَّحين في الحياة المدنية ودعمهم لاستعادة مدنيّتهم، وهذا الأمر مسؤولية الدولة والمجتمع. إضافة إلى وضع مدّة مُحدَّدة للخدمة العسكرية يتم التقيّد بها، وإعادة النظر ببدل الخدمة للمُغتربين لأن المبلغ المفروض الآن عليهم هو فوق قُدرة معظمهم، وعودة المُغتربين في هذا العقد ستُساهم في إعادة بناء البلاد بطريقةٍ كبيرةٍ، لأنهم اكتسبوا خبرة عملية وعلمية وفكرية مهمة.

التحديات كبيرة وكثيرة أمام الدولة في هذا العقد ولكن مُكافحة الفاسدين ووضع حد لهم، وإيجاد طريقة للتواصل بين الدولة والشارع هي أمور أساسية لإزالة كل العراقيل التي ستكون في وجه دمشق في المرحلة المقبلة. وفي النهاية قد تكون المرحلة السابقة أي مرحلة الحرب غابت فيها الخطط الخمسية، ولكن نحن الآن بحاجة إلى خطط واضحة ترسم معالِم العقد المقبل لأن السير للمستقبل من دون خطة واضحة سيكون عملية صعبة إن لم تكن مستحيلة.