فخّ الديموقراطية والحرية المشوّهة

الحريّة التي يتطلّع إليها الإنسان في مجتمعاتنا اليوم هي حريّة مُشوَّهة ومُصطنَعة، حُريّة سجينة، تقبع خلف أسوار الجهل والتخلّف والبَداوة.

  • فخّ الديموقراطية والحرية المشوّهة
    فخّ الديموقراطية والحرية المشوّهة

إنّ الفَهْم الحقيقي لطلب الحريّة ورفض العبوديّة قد أصبح مُغيّباً، فالحريّة التي يتطلّع إليها الإنسان في مجتمعاتنا اليوم هي حريّة مُشوَّهة ومُصطنَعة، حُريّة سجينة، تقبع خلف أسوار الجهل والتخلّف والبَداوة، لقد أسرتها الأزمات السياسيّة والاقتصادية، فأصبحت مُقيَّدة بسلاسِل الغشّ السياسي والقوانين اللاأخلاقيّة فتسلبها أجمل معانيها.

الحريّة في اللغة وكما جاء في لسان العرب لإبن منظور هي: "والحر بالضمّ نقيض العبد، والجمع أحرار وحرار… والحر من الناس أخيارهم وأفضلهم، وحرية العرب: أشرافهم، والحرّة الكريمة من النساء، والحر يعني أيضاً الفعل الحَسن، يُقال: ما هذا منك بحُر، أي بحسن ولا جميل. ويقابل مفهوم الحر العبد، وهو الإنسان المملوك".

أمّا المَعنى الفكري والفلسفي للحريّة فنُجمله بملخَّص لأبرز الفلاسفة الذين تكلّموا ونظّروا عن مفهوم الحريّة. ففي الفلسفة اليونانية قدَّم الفيلسوف والحكيم سقراط (469 ق.م - 399 ق.م) الحريّة من أوسع وأجمل أبوابها وهو باب الأخلاق، وربطها بالمعرفة، ووصفها بأنّها "فِعل الأفضل"، وهو بذلك يرى أن الحريّة الإنسانيّة تتجلّى بأروع صوَرها عندما يُقدِم الإنسان على فعل الأفضل، ولتكون المعرفة هي الدّالة عليه. وفي المقابل، فإنّ الأخلاق الإنسانيّة حينما تختفي ويحلّ محلّها الفحشاء وسوء خلق، فهذا دليل على أن الإنسان يسير بطريق العبودية.

إن الحرية التي نادى بها سقراط هي التي دفعته إلى إحياء العقول الميّتة والذوات الغارِقة في بحر الانغلاق، لذلك نراه يرفض التنازُل عن حريّته ويُحاكَم أمام مجلس مكوَّن من خمسمئة قاضٍ ويقول قولته المعروفة: "ليس على الأرض إنسان له الحق في أن يُملي على الآخر ما يجب أن يؤمِن به أو يحرمه من حق التفكير كما يهوى".

وأما الفيلسوف أفلاطون (427 ق.م - 347 ق.م) فقد قرأ الحريّة من منظار المدنية، وهو وإن لم يكن يؤمِن بالحرية اللامحدودة، لكنّه ربطها بالخير، واعتبر الدستور هو الضامِن لحريات جميع طبقات المجتمع، كُلٌّ بمرتبته. وقد سار على نهجه الفيلسوف أَرِسْطُوطَالِيس ‏(384 ق.م - 322 ق.م )، غير أنّه ربطها بمفهوم الاختيار، والذي يتحقّق عند تلاقي العقل مع الإرادة. ووصفها بأنّها الفضيلة التي تُمكِّن الإنسان ومن خلال إرادته أن يفعل الصواب باستخدام الفكر الواعي، وأما الأفعال النابِعة من جهلٍ فهي الطريق إلى السقوط في وَحل العبودية.

وكذلك الحال للقدّيس أغسطينوس (354 - 430) فقد قرأ الحريّة من خلال الإرادة الإنسانية التي على أساسها يتمّ قبول الأفكار أو رفضها.

ولا يكتمل الحديث عن الحرية إلّا بعرضٍ مُبسَّطٍ لرؤى وأفكار الفيلسوف وعالِم الرياضيات والفيزياء رينيه ديكارت (1596 - 1650)، والذي يقول في إحدى رسائله: "إن الله عمل عجائب ثلاث: الخلق والحرية والسيّد المسيح". لقد كَتَب إلى الأب ميسلاند Mesland عام 1644 يقول له إن الحريّة هي تلك القُدرة الحقيقيّة والإيجابية في أن يُقرِّر الإنسان شيئاً، وأشار في كتابه "مبادئ الفلسفة" إلى مفهوم حريّة الإرادة مُعتبراً أيّاها من الصفات الكمالية التي منَّ الله بها على البشر. وأنّ الإنسانَ مُخيَّر في الأخذ بها خصوصاً وأنّ لها صفات وحدود لا مُتناهية قد توصله إلى درجةٍ عاليةٍ الرِفعة إنْ هو أحسَن في اختيار كل ما هو صالِح.

ثمّ يقدِّم الفيلسوف الفرنسي جان بول إيمارد سارتر (1905 - 1980) رؤيته في الحريّة مُبيّناً أنّها الوسط بين مدرستين، الأولى هي المدرسة الحتميّة البيئية التي ترى أنّ الإرادة الحرّة ما هي إلّا خيال وأنّ البيئة هي المؤثّر الرئيس في ما يقوم به الإنسان من قرارات، والمدرسة الثانية وهي الأعمّ حيث تضمّ أولئك الذين يعتقدون بحرية الإرادة، وأن الإنسان يمتلك القابلية على الاختيار من دون إكراه أو إجبار من بين مجموعة بدائل.

وبين هاتين المدرستين، يقدِّم سارتر رؤيته في الحريّة مُعتبراً أن القيود والمعوقات إنّما هي مُحفّزات لانبثاق الحريّة لدى الإنسان، وأنّ هذه القيود هي التي تبيِّن القدرة الحقيقيّة للإنسان على اتخاذ القرار، ولولاها لم تُعرَف الحُريّة. وبذلك فإن سارتر قد قَلَب المعادلة مُعتبراً أن القيود هي الكاشِف للحريّة وليس العكس. وفي كتابه "الكينونة والعدَم" يؤكِّد سارتر على أن الحرية هي قُدرة الذات الإنسانيّة على الاختيار واتخاذ القرار بغضّ النظر عن كل الظروف والمُلابسات المُحيطة به.

وبعد هذا العرض الموجَز لأبرز الرؤى الفلسفيّة، لابدّ من الإشارة إلى الخطأ في اعتبار أنّ الديمقراطية هي المأوى المناسِب والمَوطِن الأمثل لكي تعيش الحريّة فيه آمِنة مُستقرّة، ومن خلالها يُسمَح لأفراد المجتمع بالتعبير الحرّ عن كل آرائهم وأفكارهم ؛ إنّ هذا هو الخَيال بعينه، فالواقع يَشهد أنّ الفكر الرشيد والرأي والوعي والإرادة الحرّة جميعها قد خرجت عن معانيها الحقيقيّة، وأنّ الديمقراطية المُصطَنعة هي الفّخ الذي نُصِب للإيقاع بالحريّة الفردية ولسَحْقِ الفكر والوعي وتحويل الفرد إلى أداةٍ تحرِّكه نُظُم الاستبداد من خلال "الروموت كونترول" وقتما شاءت، وكيفما شاءت وبأيّ اتجاه أرادت. وفي ظلّ هكذا ظروف فإنَّ السؤال الذي مازال يُحلِّق فوق رؤوسنا يسأل عن جواب هو: هل أنّ الحريّة تتلخَّص بظاهِر حاملها وبشخصه وبَدَنه، وأّنّها بذلك تموت وقت ما مات وتُسجَن حينما يُسجَن؟

إنّ الإنسان هو المخلوق الذي يمتلك وعياً لوجوده الذاتي، ولديه القُدرة على إدراك ما يُحيط به من موجوداتٍ وأحداثٍ وتقلّبات، وأنّه لا يكون إنساناً ولا لذاته وجوداً حتى يكون حراً، مُنعتقاً من وَهْم وخيال الذات، مُحلّقاً في سماء الفكر والمعرفة؛ فَأَن تكون حرّاً يعني أنْ تعرف حقيقة ذاتك من أجل أن تُعبِّر عن رأيك بكلّ وعي وجُرأة وشجاعة، من دون خوف أو تردّد، فالحرية هي بقدر ما تُفَكّر وتُعطي وتَعمَل وتُضحّي، الحرية هي جوهر وجود الإنسان، وإنّها ليست حالة طارئة قد وَجَدَ الإنسان عليها ذاته، بل هي الرّوح التي من خلالها يُفكّر ومن دونها فهو ميّت، وهي البوصلة التي تُحدِّد مَسار الذّات، وهي الوازِع والمُحرِّك للفكر من أجل العمل بأخلاقٍ وَصَلاح، الحريّة هي البناء والحضارة والرقيّ والتقدّم، ومن دون ذلك فنحن عبيد.

الحريّة تعني التميِّز في طرح الرؤى والمفاهيم النافِعة وهي الإبداع الفكري الذي يؤسِّس لبناء مجتمعٍ فاضِل نواته الفكر والتفكير، وأنّ إقصاء وتهميش الإنسان المُفكّر لا يعني مُصادَرة حريته بالمُطلَق، فالفكر والإدراك والوعي عناوين مُقدَّسة لا يمكن تحجيمها أو تكبيلها بالسلاسِل، وهي لغة لا يفقهها الجلاّدون، فهم العبيد حينما باعوا ذواتهم وأنكروا عقولهم.

لقد عاش سقراط  حُراً بمنهجه وشجاعته ومات حُراً بفكره ووعيه، وأنّ السجن والموت لم يسلبا منه شيئاً بل قلّداه وسام الحرية على مدى الدهور، وهو القائل في المحاكمة التي أدانته وحكمت عليه بالإعدام: "ابتسموا إذن للموت أيها القُضاة، واعلموا عِلم اليقين أنه يستحيل على الرجل الصالِح أن يُصاب بسوء لا في حياته ولا بعد مماته، فلن تهمله الآلهة".