النظام النيوليبرالي الغربي تحاصره كورونا

المشكلة تكمن في بنية النظام النيوليبرالي الغربي الذي تمتلك الشركات الكبرى فيه نفوذاً أقوى من جهاز الدولة نفسه.

  • النظام النيوليبرالي الغربي تحاصره كورونا
    30 مليون أميركي لا يمتلكون تأميناً صحياً، و60 مليوناً سيصبحون مُدينين بآلاف الدولارات إذا ما حاولوا طلب العلاج

في تفسيرهم للمأساة الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية التي حلّت بإيطاليا وقريباتها من الدول الغربية، يتحدّث المُختّصون في تفشّي الأمراض الوبائية عن صورةٍ نشرها رئيس الحزب الديمقراطي الحاكم في إيطاليا نيكولا زينغاريتي على موقع "أنستغرام" يوم 27 شباط/فبراير الماضي وهو يحتسي شراب ما قبل العشاء مع أصدقائه في مكانٍ عام حيث كتب التعليق التالي مُرفقاً مع الصورة: "دعونا لا نفقد عاداتنا، لا يمكننا وقف ميلانو وإيطاليا، اقتصادنا أقوى من الخوف، فلنخرج لنشرب القهوة ولنتناول البيتزا".

عندما نشر الزعيم الإيطالي هذا المنشور كان عدد الإصابات بمرض كورونا  المُسجّلة في كل البلاد لا يتعدّى الـ400 حالة، ليصل العدد إلى ستة آلاف في إيطاليا بعد أسبوع واحد فقط.

 أمر مُشابه حدث في الولايات المتحدة الأميركية حين حاول الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تغريداته على "تويتر" التقليل من خطورة الوباء تبريراً منه لعدم اتخاذ إدارته إجراءات العزل والحَجْر الصحي وإقفال المدن، خوفاً على الاقتصاد ومؤشّرات البورصة من التأثّر، فقارن ترامب الفايروس المُستجد في بداية انتشاره في الولايات المتحدة بالإنفلونزا، مُستهيناً بما يمكن أن يُلحقه من خسائر بالأرواح، بينما تعمّدت حكومة المُحافظين البريطانية إخفاء أعداد الإصابات بكورونا في بدايات انتشار المرض في الممكلة المتحدة، ليخرج رئيسها بوريس جونسون فجأة وبعد تفشّي الوباء بخطابٍ دعا فيه الناس إلى الاستعداد لفُقدان الأحباء، مُبشّراً بنظرية (مناعة القطيع) التي تعني عملياً السماح للوباء بالانتشار وحصاد أرواح الأضعف مناعياً ومالياً ممَّن لن يحصلوا على فرصة التغلّب على المرض عبر دخول غرفة عناية مُشدّدة مزوَّدة بجهاز تنفّس صناعي، والرهان هنا على المناعة التي يتوقّع أن يشكّلها الجسم البشري بعد انتشار الوباء وحصده لقرابة 2 مليون ونصف مليون بريطاني كما شرح تقرير لصحيفة "الغارديان" البريطانية.

 تراجعت حكومة جونسون لاحقاً عن خطّة مناعة القطيع تحت ضغط الرفض الشعبي، لكن التراجّع بقي نظرياً وليس عملياً مع امتناع الحكومة عن فرض حظر التجوّل الكلّي وإقفال المدن والاكتفاء بدلاً من ذلك بمنع التجمّعات، وهو ما يتكرّر في ألمانيا التي أعلمت مُستشارتها ميركل الشعب بأن 60-70% من الألمان سيصابون بالوباء فيما لم تتّخذ حكومتها إجراءات دراماتيكية تمسّ بالاقتصاد باستثناء منع التجمّعات في الأماكن العامة.

على المقلب الآخر كان  موقف الرئيس الصيني شي جين بينغ حاسماً في بدايات انتشار الوباء في مدينة ووهان الصينية عندما أعلن أن "الحفاظ على الأرواح أهم من الاقتصاد" لتتّخذ الحكومة الصينية كل إجرءات العزل الممكنة للمناطق الموبوءة من فرض حظر التجوّل الكلّي مروراً بطباعة عملة ورقية خاصة بالمدينة المُصابة منعاً لانتشار الوباء إلى بقيّة المناطق الصينية عبر الأوراق النقدية،  وصولاً إلى تأسيس مشفى ضخم مجهّز تجهيزاً كاملاً في مدّة قياسية، واستخدام تقنيات الذكاء الصناعي التي أحرزت فيها الصين تقدّماً هائلاً، وذلك من أجل تتبّع الحالات المُصابة عبر الكاميرات المنتشرة في شوارع المدن الصينية، وتحديد الأشخاص الذين من الممكن أن تكون العدوى قد انتقلت إليهم، وإجراء اختبار الإصابة عليهم، وهو ما أثبت في النهاية نجاعته في خفض أعداد الضحايا من خلال محاصرة المرض وتخفيف الضغط على النظام الصحي، لذلك كان من الطبيعي أن يسجّل اليوم سقوط ثلثي ضحايا الكورونا في الدول الغربية (دول الاتحاد الأوروبي وأميركا)، بينما حقّقت الصين حصاراً شبه كامل للوباء إذ لم تسجّل إصابة واحدة جديدة بالكورونا في ووهان منذ أسبوع كامل، كما نجحت في الوصول إلى أفضل نسبة شفاء من المرض حوالى 90%، وذلك على الرغم من فرصة الأشهر التي أتيحت للدول الغربية لتحتاط منعاً لتفشّي الوباء منذ بدأ المرض في الصين بشكلٍ مفاجئ في الشهر الأخير من العام 2019 وهو ما لم يكن متاحاً مثله لحكومة بكين.

لقد قامت الرأسمالية الغربية بصيغتها النيوليبرلية الحالية بإجراء مقارنة بين تكلفة محاصرة ومحاربة كورونا، وتكلفة إنقاذ المصابين وخصوصاً كبار السن أو الذين يعانون من أمراض مُزمنة، وبين ما يمكن أن يسبّبه انتشار الوباء من خسائر اقتصادية، وبسبب طبيعتها المتوحّشة وبدافع إعلائها لقِيَم الربح والنمو الاقتصادي وقِيَم البقاء للأقوى وصلت الحكومات الغربية إلى نتيجةٍ مفادها :
فليعمّ الوباء وليمُتْ من لا يستطيع المقاومة أو الذين تبدو تكلفة علاجهم عالية قياساً لفُرَص نجاتهم بسبب ما يعانونه من مشاكل صحيّة وليسُدْ قانون "الإصطفاء الطبيعي"، لتجدّد الرأسمالية شبابها وتتخفّف من أعباء وتكاليف نظام الضمان والرعاية الصحية خصوصاً للمسنّين، ولتستعد عجلة الاقتصاد للنهوض ومواصلة السير والسحق والتغوّل ولو على توابيت مَن انتهت صلاحيتهم.

تقول إحدى الطبيبات الإسبانيات بأن ما يحدث اليوم في إسبانيا جريمة أخلاقية "نحن نقوم بفصل أجهزة التنفّس الصناعي عمَّن يبلغون من العُمر 65 عاماً وأكثر ونعطيهم المخدّر ثم نمسك بأيديهم مُنتظرين وفاتهم، وذلك لتوفير تلك تلك الأجهزة المحدودة العدد لمَن هم أصغر سناً". تخيّل أن الحكومة الإسبانية لم تقم إلى اليوم بإجراء بديهي مثل إغلاق مدريد حيث بؤرة الوباء، رغم أن عدد ضحايا كورونا من الإسبان وصل إلى نحو 700 وفاة كل يوم.

ويُخطئ مَن يظن بأن المسألة تتعلّق هنا بكفاءة أو قدرة النخبة الحاكمة في الدول الغربية على تحمّل المسؤولية، مقارنةً بنظيرتها في الصين أو في إيران التي تعاني حصاراً يمنع وصول المواد الطبية والأدوية إليها، ونجحت رغم ذلك في خفض نِسَب انتشار المرض وفي تحسين نِسَب الشفاء، بل إن المشكلة تكمن في بنية النظام النيوليبرالي الغربي الذي تمتلك الشركات الكبرى فيه نفوذاً أقوى من جهاز الدولة نفسه، وذلك من خلال اللوبيات ومن خلال تمويلها للحملات الانتخابية للمُرشّحين للانتخابات الرئاسية والنيابية، لذا كان من الطبيعي أن يذهب مبلغ التريليون ونصف تريليون التي خصّصها ترامب لمواجهة أزمة كورونا إلى دعم "وول ستريت" وشركات الطيران والسياحة والرحلات البحرية، بدل دعم رعاية صحية مجانية للطبقة العاملة، وذلك في مقابل نموذج دولة الرعاية في إيران والصين التي لم تعد دولة شيوعية كما كانت في الماضي، لكنها لا زالت دولة مسؤولة عن حماية مواطنيها أكثر من حماية الشركات الكبرى ومصالح الرأسماليين الكبار.

فالمرض هنا ليس الكورونا بل النيوليبرالية المريضة التي كان كبار الاقتصاديين في الغرب يتوقّعون أن تدخل أزمتها الكبرى في العام 2020 حتى من قبل الكورونا.

النيوليبرالية المريضة التي من أعراضها أن 30 مليون أميركي لا يمتلكون تأميناً صحياً، بالإضافة إلى 60 مليوناً عليهم دفعات مالية لدرجة أنهم سيصبحون مُدينين بآلاف الدولارات إذا ما حاولوا طلب العلاج، كما أن 45% من الأميركيين لا يمتلكون دولاراً واحداً كمدخّرات، و24% آخرين يمتلكون أقل من ألف دولار كمدخّرات، مع العِلم أن زيارة واحدة إلى غرفة طوارئ أو عناية مركّزة لحالة كورونا في أحد المشافي الأميركية، ستؤدّي إلى محو ملايين الدولارات من مدخّرات الأميركيين. وكمثال أبدى مدرّس في مدرسة بروكلين العامة بعض أعراض الكورونا فتمّت محاسبته بعشرة آلاف دولار لمجرّد زيارته غرفة طوارئ. يحدث هذا في دولة نهبت وتنهب ثروات العالم وتراكمها عبر الاستعمار المباشر وغير المباشر.
المفارقة هنا أن هذه أنظمة ودول تدّعي زوراً وبهتاناً احترامها للإنسان وحقوقه، وهي باسم تلك الشعارات قامت بشنّ حروب مباشرة وغير مباشرة في منطقتنا، ولا تزال تفرض حصاراً اقتصادياً ظالماً على الشعبين السوري والإيراني، لكنها عندما حانت لحظة الحقيقة انحازت ليس إلى حقوق الإنسان التي تدّعيها، بل إلى ثقافة "مناعة القطيع" و"الثور" الأقوى هو الذي سيبقى ويحظى بالمساعدة ويغنم فرصة الحياة .

 

أعلنت منظمة الصحة العالمية في 31 كانون الأول/ديسمبر 2019 تسجيل إصابات بمرض الالتهاب الرئوي (كورونا) في مدينة ووهان الصينية، ولاحقاً بدأ الفيروس باجتياح البلاد مع تسجيل حالات عدة في دول أخرى حول العالم.