ماذا يحدث في موريتانيا؟

ما زالت البصمة الفرنسية في بناء النخبة السياسية واضحة في المشهد الموريتاني ومستمرة فيه، ما يزيد من تعقيده وتعطيله.

  • ماذا يحدث في موريتانيا؟
    ماذا يحدث في موريتانيا؟

يبحث القادة الجدد للمؤسَّسات العسكرية العربية عن النموذج الجديد في القيادة المستبدة المستنيرة شكلاً للحكم. في مصر، أبرزت مؤسَّسات العسكر والإخوان على حد سواء قادة جدداً اختلفوا كثيراً عن سمات قادتهم الأوائل حسن البنا وجمال عبد الناصر.

بسبب التدخلات الأجنبية، وطابع التحالفات التاريخي، وشيخوخة النخبة العسكرية والسياسية، لم تستطع المؤسسة العسكرية المصرية وجماعة الإخوان المسلمين على حد سواء تقديم شخصيات جامعة، فالقادة الجدد مؤسّساتيون بطبعهم، أفرزتهم الآلة البيروقراطية الداخلية، وافتقدوا سحر الزعامة وفصل الخطاب والقدرة على بناء تحالفات سياسية مع الفرقاء والمخالفين.

في الملكيات العربية حكام غائبون. في نظام السعودية والإمارات، يتحكَّم ولاة العهد بمقاليد الأمور، وتحاول ماكينات البروباغندا السياسية النشيطة توطيد هذا النظام السياسيّ المريج الهجين، الَّذي لا يمتلك مقومات استراتيجية حقيقية لاستقلال قراره السياسي أو وجوده السيادي. 

في موريتانيا، يبدو نموذج بوتين - ميدفيديف بعيداً من الواقع، فالرئيس السابق يخضع اليوم لمحاسبة سياسية صارمة يقودها رفقاء الأمس، وعلى رأسهم الرئيس الغزواني، الذي اعتقل رئيسه السابق ورفيقه في الانقلابات، ليحاسبه على زمن كان الاثنان فيه يحكمان معاً دولة المليون شاعر والمليون فقيه.

ولا يبدو أنَّ محاكمة الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز ستكون محاكمة مدنية صرفة، فغداة إعلان استجواب الرئيس السابق، خرجت تصريحات الخارجية الموريتانية مثمنةً القرار الإماراتي بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، فيما سارعت الخارجية الأميركية إلى إعلان دعمها الصريح للحكومة الموريتانيّة ولمساعيها التنموية وأدائها في الحرب على الإرهاب، وهو نشاط لطالما ارتبط باسم ولد عبد العزيز، الذي اتسم حكمه بالمركزية، وبتقوية الدولة الحارسة داخل منطقة ضعيفة الاستقرار.

هل يمكن للنّظام العسكريّ أن يتحول إلى نظام ديموقراطي من دون أن ينزل العسكريون عن صهوة الحكم؟

في ثورة القرنفل البرتغالية، وفي انتقال إندونيسيا السلمي، وفي تحوّلات تركيا المعاصرة، كان القاسم المشترك الأساسي الذي بُني عليه تحوّل الدور السياسي للعسكر هو تحوّل طبيعة الشرعية التي تتأسّس عليها وظيفة الجيش وأدواره داخل الدولة والمجتمع، من خلال إرادة سياسية عسكرية مشتركة راغبة في التغيير.

 لا تبدو موريتانيا قادرة حالياً على الدخول في هذا المسار، فالرئيس الجديد يغيّر اليوم قيادات سلفه بقيادات جديدة لا تبتعد عن المنطق التقليديّ في الاختيار الذي طبع الحكم في موريتانيا منذ انقلاب العاشر من تموز/يوليو 1978، كما أنه يسعى منذ بداية حكمه إلى البحث عن داعمين خارجيين قلَّما دعموا الديموقراطية في العالم العربي، فالإمارات الداعم الأول للرئيس الجديد، والتي ترقص اليوم ماكينتها الإعلامية على طبول التطبيع مع "إسرائيل"، لم تر في المؤسسات العسكرية إلا وسيلة فعالة في دعم الحكم الشمولي وترسيخ قيمه.

وإلى جانب الإمارات، تتجاذب موريتانيا قوى تقليدية في توجيه قراراتها الداخلية والخارجية، من جهة المصالح الفرنسية الدائمة منذ عهد المختار ولد داده، وتأثيرات دول الخليج، من مثل الإمارات، وقبل ذلك السعودية وقطر. ورغم وجود التيارات الناصرية والبعثية منذ السبعينيات في الجيش الموريتاني، فإنَّ السمات التقليدية للمجتمع حكمت كثيراً على محددات التسيير الداخلي، ما أضعف المؤسّسات، وهدّد في مراحل كثيرة من تاريخ موريتانيا المعاصر الحقوق الأساسية قبل السياسية.

بعد تولّي ولد عبد العزيز الحكم في موريتانيا، ، دعم الكثير من مواليه عملياً نظرية "الاستبداد المتنور" الَّذي يبني صورة الدولة القوية من خلال المؤسَّسة العسكرية ذات القيادة الكاريزمية، في ظلّ ضعف المواقف الخارجية التي تميز بها عهد ولد الطايع، فقام الرئيس الجديد بقطع علاقات موريتانيا مع "إسرائيل"، وحوَّل مبنى السفارة الإسرائيلية إلى نصب تذكاري للقدس في العاصمة نواكشوط، لكن ذلك لم يشفع له عند الإسلاميين الذين ناصبوه العداء منذ البداية، بينما يلاحظ اليوم تزايد رضاهم عن ابن الطريقة الصوفية، العسكري الذي لا يختلف كثيراً عن سابقه ابن القبيلة المحاربة.

على صعيد الحرب على الإرهاب، بذل ولد عبد العزيز جهوداً مهمة في محاولة التأسيس لتقوية الجيش الموريتاني، من أجل حماية الحدود الواسعة للدولة المترامية الأطراف في مناخ جيوستراتيجي قلق ومهدّد، رغم أن طبيعة التسيير الحكومي والسياسات العامة لم تشهد تغييرات جذرية، في ظلّ تجاذبات سياسية لا تنتهي، وعدم قدرة حقيقية للكثير من مؤسسات الدولة على تحقيق الحاجات الأساسية للشعب. 

لا تبدو محاكمة ولد عبد العزيز عنوان تغير حقيقي في موريتانيا لأجل محاربة الفساد، بل من الممكن أن تؤدي الطريقة التي اعتمدت بها التحقيقات إلى زعزعة مجموعة من التوازنات الاجتماعية التي لا زالت مترسخة ومتحكّمة في السياسة، والتي لم تسلم منها أغلب التيارات السياسية منذ عهود طويلة. من جهة أخرى، لا زالت البصمة الفرنسية في بناء النخبة السياسية واضحة في هذا المشهد ومستمرة فيه، ما يزيد من تعقيد المشهد السياسي وتعطيله.

وفي سياق دولي وإقليمي شديد الحساسية، لا يبدو أن المخاطرة بالاستقرار في موريتانيا قد تؤدي إلى نتائج محمودة. ورغم ضعف البنية السياسية المعتمدة على المؤسَّسة العسكرية في بناء الدولة، فإنَّ النخبة السياسية، سواء كانت من الإسلاميين أو غيرهم، تبدو أكثر ضعفاً وأقل قدرة على تقديم رؤية استراتيجية حقيقية للتغيير. ورغم الدور المهم الذي تؤديه النخبة العلمائية داخل البلاد وخارجها، فإنها لا تنشط إلا على شكل أفراد يقدمون خدمات دينية في الغالب، من دون الإسهام بشكل عميق في بناء هوية حقيقية وتصورات سياسية واضحة للتغيير السياسي القطري أو الدولي.

لقد فشلت الحركة الإسلامية في موريتانيا في الخروج من جمهورها التقليدي على مستوى بنائها الاجتماعي، وأصبحت اليوم تفقد صوتها الثوري المعارض، بسبب عدم قدرتها على بناء توجهات استراتيجية بعيدة عن التقاطبات الدولية التي يعيشها الشرق والغرب. 

ويبدو أن الامتحان الذي وجد إسلاميو الجزائر أنفسهم أمامه غداة الحراك الشعبي الجزائري الذي أسقط بوتفليقة، ليس بعيداً من موريتانيا، التي لا زالت تعيش مخاضاً سياسياً طويلاً ومضنياً، تفقد فيه النخبة السياسية ألقها يوماً بعد يوم، فيما يبحث الشعب الموريتاني عن الكاريزما المفقودة في النخبة السياسية القائمة.