القدس في حسابات السّياسة الأميركيّة: بين إدارة الصّراع وحلّه

شكّلت سياسة ترامب تتويجاً لمسار الإدارات السابقة، وإن كان إخراجاً فظاً أدت شخصيّة ترامب ونرجسيته دوراً في طريقة بلورته.

  • القدس في حسابات السّياسة الأميركيّة: بين إدارة الصّراع وحلّه
    ترامب لا يملك وعوداً جديدة يمكن أن يقدّمها بخصوص القدس

لم تكن مقاربة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للقضية الفلسطينية عموماً، وللقدس المحتلّة خصوصاً، مشابهة لمقاربة أيّ من الإدارات السابقة، لكنّها لم تكن متناقضة معها في جوهر دعمها لـ"دولة" الاحتلال، وإن حاولت الإدارات السابقة أن تجمّل هذا الانحياز عبر الظهور في موقع الوقوف على مسافة واحدة من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. 

وعلى الرغم من "الالتزام" الأميركي - قَبل ترامب - بأن يكون حسم موضوع القدس متروكاً لاتّفاق الجانبين، فإنّ عقوداً من الرّعاية الأميركيّة لمسار المفاوضات شكلت مظلة تصاعدت في ظلّها مشاريع التهويد والاستيطان، وسياسة هدم منازل المقدسيّين وتهجيرهم ومصادرة أراضيهم. 

وقد شكّلت سياسة ترامب تتويجاً لمسار الإدارات السابقة، وإن كان إخراجاً فظاً أدت شخصيّة ترامب ونرجسيته دوراً في طريقة بلورته، فهو لا يزال يردّد لازمة تكاد لا تفارقه في كل مرّة يذكر فيها "إنجازاته" المتعلّقة بالقدس، حيث إنّه "فعل ما لم يجرؤ من قبله من الرّؤساء على فعله".

ففي كانون أول/ديسمبر 2017، أعلن ترامب اعتراف إدارته بالقدس عاصمة لـ"دولة" الاحتلال، ومن ثم نقل السفارة الأميركية إلى المدينة المحتلة في أيار/مايو 2018. وفي كانون الثاني/يناير 2020، كشف رسمياً عن بنود خطته للسلام المعروفة بـ"صفقة القرن"، والتي تبنّت الرّواية التلمودية حول القدس والأقصى، وأقرت بالسّيادة الإسرائيلية على المسجد. ويضاف إلى ذلك قراراته حول وقف تمويل الأونروا، التي يشمل عملها اللاجئين في الشطر الشرقي من القدس المحتلّة. 

ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقررة في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، تستعر الدّعاية الانتخابية، لكن ترامب الذي لا يملك وعوداً جديدة يمكن أن يقدّمها بخصوص القدس بعدما قدّم "كل ما طلبه الإيفانجيليّون"، يعمل على استعراض ما قدّمه على مدى سنوات ولايته الأولى، ليوكّد أنّه فعل كل ما هو ممكن في هذا الإطار، وهو يستحقّ من أجل ذلك مكافأته بولاية جديدة.

ففي المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في 27 آب/أغسطس 2020، قال ترامب في خطاب قبوله ترشيح الحزب له: "على عكس العديد من الرؤساء الذين سبقوني، وفيت بوعدي، واعترفت بالعاصمة الحقيقيّة لإسرائيل، ونقلنا سفارتنا إلى القدس، وقمنا بتنفيذ ذلك فعلاً. وبدلاً من إنفاق مليار دولار على المبنى الجديد، كما كان مخطّطاً، اخترنا مبنى قائماً في أفضل المناطق. صفقة عقارية، أليس كذلك؟ لقد افتتحنا السفارة بأقل من 500 ألف دولار".

وكان ترامب أكثر صراحة ووضوحاً في لقاء جماهيري في ويسكونسن في 18 آب/أغسطس 2020، عندما قال إنّه اعترف بالقدس عاصمة لـ"دولة" الاحتلال "من أجل الإيفانجيليين الذين كانوا متحمّسين لذلك أكثر من اليهود".

وبين التّصريحين، دخل وزير خارجيته مايك بومبيو على خطّ الدعاية الانتخابية الرئاسية والتّرويج لإنجازات ترامب، حيث صوّر رسالة من سطح مبنى في القدس المحتلة، ظهرت في خلفيّتها البلدة القديمة والمسجد الأقصى، وذلك أثناء زيارة رسمية شملت "دولة" الاحتلال ودولاً عربية. 

وقد بثّت الكلمة في المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في 25 آب/أغسطس 2020، وأثنى فيها بومبيو على السياسة الخارجية لترامب التي "جعلت الأميركيين أكثر أمناً"، وأشار إلى أنّ "الرئيس نقل السفارة إلى مدينة الله، القدس، العاصمة الحقيقية للشعب اليهودي".

خطوة بومبيو كانت محل انتقاد داخلي واسع، حيث يمنع على موظفي الخارجية والدفاع، بموجب الأعراف الدّبلوماسية الراسخة في بلاده، الانخراط في أي نشاط حزبيّ. وقد علّق رئيس لجنة الرقابة الفرعية في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي، خواكين كاسترو، على ذلك بالقول إنّ إدارة ترامب وبومبيو "لم يظهرا تجاهلاً صارخاً للأخلاق الأساسية فقط، إنّما أبديا أيضاً استعداداً لانتهاك القانون الفيدرالي لتحقيق مكاسب سياسيّة".

لكن يبدو أنّ المكاسب السياسية التي يعتقد بومبيو أنّه سيجنيها أكبر ممّا قد يترتّب على مخالفته الأعراف الدبلوماسية، فهو يروّج لترامب هذا العام وعينه على انتخابات العام 2024، وفق ما قالت "نيويورك تايمز"، وهو لا يهدف إلى حماية "إسرائيل" فحسب، بل إلى مخاطبة الناخبين الإيفانجيليين البيض كذلك. وقد عبّرت عن ذلك الباحثة في معهد "بروكنغز"، تمارا كوفمان ويتس، قائلة: "نعلم أنّ لديه طموحات سياسيّة أوسع. هل هذا لترامب؟ أم هو لبومبيو؟ ربّما لهما معاً!".

لم تتخلّف الإدارات الأميركية السابقة على ترامب عن دعم "دولة" الاحتلال وسياساتها، ولم تبخل عليها بالدعم المالي وبالوقوف وراءها في مجلس الأمن لتعطيل أيّ قرارات تدين جرائمها بحقّ الفلسطينيين، واستمرت في رعاية مسار المفاوضات بما شكّله من غطاء للإسرائيليين لمزيد من الاعتداء على الحقّ الفلسطيني، ولتثبيث المزيد من الوقائع على الأرض، فكان تعاطيها مع القدس من ضمن سياسة إدارة الصراع، مع إعطاء الأولوية لمصالح "دولة" الاحتلال ومطالبها. 

أمّا ترامب، فقد فصل نفسه عن سياسة إدارة الصّراع، وانتقل إلى "الحلّ" على طريقة التعاطي مع الصفقات التّجارية والعقاريّة، لكن سياسته لم تكن لتحقيق مكاسب انتخابية على مستوى الأصوات الإيفانجيليّة فحسب، بل إنّ توجيهها كان بوحيٍ من موظّفي إدارته الإيفانجيليّين، حيث تلاقت رؤيتهم الدّينية مع مصالحه الانتخابيّة التي تغذّيها نرجسيّته المفرطة، فأنتجت حلاً كانت أولى "بشائره" تسليم القدس للإسرائيليّين.

على مدى أعوام، قدّمت الإدارات الأميركية المتعاقبة مسار المفاوضات على أنّه الحلّ ضمن سياستها في إدارة الصراع، فتمادى الاحتلال في تهويد القدس، ولم تستطع السلطة الفلسطينية التصدّي له. 

واليوم، تشهد أعوام "الحلّ" الذي قدّمته إدارة ترامب محاولات لإعادة إحياء مسار المفاوضات، من باب إدارة تداعيات هذا "الحلّ" الذي اجترحته هذه الإدارة لاستدراج الفلسطينيين إلى التّنازل عن القدس والأقصى، وفق ما أملته الإدارة الأميركية في "صفقة القرن"، وفي القرارات المتفرّقة التي سبقت الإعلان عنها، فهل يستعيد القدس أهلها أو ستضيع بين حسابات السياسة الخارجية الأميركية والنبوءات التوراتية وموجات السقوط العربيّة؟ 

أنظمة عربية عدة، وبعد سنوات من التطبيع السري مع الاحتلال الإسرائيلي، تسير في ركب التطبيع العلني، برعاية كاملة من الولايات المتحدة الأميركية.