الأمنوقراطية*

السياقات التي تناولتها المبادرة وجامعة "كوبنهاغن"، جاءت لتكون مرجعاً لرسم مستقبل شكل العلاقة بين المواطن وأمنه.

  • مشاريع تقويض الأنظمة السياسية القائمة في الدول التي تم استهدافها أخذت بالضرورة دور الأمن بالحسبان
    مشاريع تقويض الأنظمة السياسية القائمة في الدول التي تم استهدافها أخذت بالضرورة دور الأمن بالحسبان

اعتمدت مدرسة "كوبنهاغن" تقسيم القطاعات الأمنيّة إلى قطاعات عسكرية وسياسية واقتصادية ومجتمعية وبيئية، كما اعتبر أول ويفر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كوبنهاغن، أن النخب هي التي تعلن شيئاً ما مشكلة أمنيّة.

ولم يرد في أدبيات مدرسة كوبنهاغن، ولا عند المؤرخ الأميركي باري بوزان، الذي تحدَّث عن "الأمننة"، ما يشير إلى الأمنوقراطية صراحةً، إلا إذا أخذنا مقولة ويفر حول ما تذهب إليه النّخب بجعل شيء ما مشكلة أمنيّة، وأسقطناه على بعض الدول العربية منذ العام 2011. 

وإذا ما سلّمنا بأنّ من يديرون الدفّة في بعض هذه الدول هم نخب جاء بها "الربيع العربي" في الدّول التي تعيش وهم التغيير، أو في الدّول التي لم يلحقها الشّرر بعد، وحتى في فلسطين المحتلة، في المناطق التي تخضع لسيطرة السلطة الفلسطينية، فقد تم إيلاء الجانب الأمني رعاية خاصة، حتى إنّ كلّ مشاريع ما بعد أوسلو تحدّثت عنه كضامن لأيّ حلّ سلميّ مرحليّ.

وقد ارتبط مفهوم الأمن في هذه الدول بشقين؛ الأمن الشّرطي التقليديّ الذي يقوم بمهمة حماية المجتمع والحدّ من الجريمة وحماية الممتلكات، وهي مهام تلقى قبولاً عند المواطنين، وتعرف عبر التاريخ منذ أن كانت الحاجة لدعم الاستقرار البشري، كما يقوم بمهمات أخرى في حال قيام أي اضطراب أو احتجاج سياسي أو مطلبي في الشارع، ما يترك انطباعاً عند المواطنين بأنه قطاع قمعي ويمارس سطوة على المجتمع بحجة الحفاظ على الأمن.

أما الشقّ الثاني، فهو ما يعرف بأمن الدولة أو المخابرات، إذ تناط به مهمّة حفظ الأمن، وتجنيب البلاد كل ما من شأنه زعزعة الاستقرار، ومتابعة من يخطّط لذلك، سواء كانوا من مواطني الدولة أو من الخارج، وهو الشقّ الَّذي يعتبره كل المواطنين العرب الأقسى والأشد رعباً.

ويرتبط الشقان بمفهوم هيبة الدولة، لكن يبدو أنّ هناك من يملك وجهة نظر مغايرة لفكرة الأمن، وخصوصاً بعد العام 2011، وأنّ ما يعتبر توصيفاً لبلد ما بأنه نظام بوليسي، يمكن قبوله في بلد آخر، إذ نرى دولة كمصر مثلاً، ألقت المسؤولية كاملة على جهاز أمن الدولة، ورُبط الفساد به، وتمَّ تحميله مسؤولية قسوة قوات الشرطة وسطوتها الاجتماعية وترهيبها للمواطنين، كما تمَّ اتهام كلّ الدول التي وصلتها نيران "الربيع العربي" بالأنظمة البوليسية كلازمة للاستبدادية.

وفي سوريا مثلاً، تشير دراسة لمبادرة الإصلاح العربي، نشرت بتاريخ 7 سبتمبر/أيلول 2020، إلى أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والدنمارك موَّلت وأشرفت على تشكيل ما سمي "الشرطة السورية الحرة"، واعتبرتها الأداة الأنجع في الوقوف في وجه ما أسمته "نظام الأسد".

في المقابل، تبنَّت المبادرة العربية للإصلاح دراسة لإصلاح القطاع الأمني في لبنان منذ العام 2012، في إشارة إلى سيطرة الطوائف واقتسامها إدارة هذا القطاع، والتركيز على مديرية الأمن العام الّتي يتولّى "الشيعة" إدارتها، وتحميله مسؤولية القمع والفساد، لتكون هذه الرؤية مجال بحث في ما بعد لمعهد كارينغ. (https://carnegie-mec.org/2020/09/07/ar-pub-82664 بعنوان "ممارسة السياسة: المساعدات الدولية لقطاع الأمن ودور الجيش اللبناني المتغير").

بالتأكيد، لم تكن صدفة أن تخرج دراستا "كارينغي" ومبادرة الإصلاح الآنفة الذكر في اليوم ذاته من الشهر والسنة. ومن اللافت أن دراسة المعهد قدّمت رؤية أخرى بالاستناد إلى دراسة تبنّتها المبادرة في العام 2012، وقامت بتقديم استنتاجات ومقترحات من شأنها إيجاد حل لمشكلة قطاع الأمن في لبنان، تقوم على تقديم الدعم للجيش اللبناني الذي تراه الأكثر موثوقية في نظام "الحكومة الحالية الفاسد"، كما أسمته، ليتحول الجيش إلى ناظم للعملية الأمنية، ويشرف ويتولى مسؤولية الأمن مع الأجهزة الأخرى، ويعمل على التواصل مع المواطنين ومؤسسات المجتمع المدني، وأن تقوم الولايات المتحدة الأميركية بالاستمرار بدعمه ومساعدته، لوضع استراتيجية أمنية تساعده على مواجهة "الإرهاب" وحماية لبنان وحدوده من المخاطر الخارجية، مع مراعاة الخوف من توقف الدعم الأميركي في حال الدفاع أو المواجهة مع الجانب الإسرائيلي، أي أن الجيش، كحامٍ للحدود، مهمته مقتصرة على حدود دولة عربية فقط. أما الحدود الجنوبية، فعلى الجيش أن يكون حامياً للطرف المقابل لها، وأن لا يدخل مع الكيان الصهيوني في أي مواجهة.

من هنا، ينتفي شعار "يسقط حكم العسكر"، باعتبار أنَّ الجيش في دولة مطلوب تقويض نظامها داخلياً، كلبنان، يتم العمل على تمكينه من اتخاذ خطوات من شأنها التماهي مع ما يعدّ لوطنه، والزجّ به في معركة داخلية مع ما يسميهم كارينغي "المفسدين وحزب الله".

ولا بد من التوقف أيضاً عند دراسات عديدة حول عمل الشرطة بعد العام 2011، وأحدها، بل وأخطرها، الدراسة التي نشرتها المبادرة العربية للإصلاح في أيلول/سبتمبر 2020، إذ أشارت إلى دور الاتحاد الأوروبي في "الربيع العربي"، وقيامه في العام 2015 بإنفاق 200 مليون يورو على إدارة النظام الأمني في 5 دول عربية، وذلك لإصلاح عمل الشرطة وتطويره، مع مواصلة الاستثمار في القطاع الشرطي فيها.

 كما أنَّ من اللافت في هذه الدراسة أن معدها يشير في المقدمة إلى المواطن الأميركي الذي قتل خنقاً تحت أقدام الشرطة، لكنه يستخدم حادثته كمدخل للحديث عن الأمن في الدول العربية، أو كما يسمى بلغة المؤسّسة الناشرة، الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وكأن الجريمة وانتهاك حقوق الإنسان حكر على العرب دون سواهم.

كثيرة هي الدراسات الأمنية، وهي اختصاص تفردت به أكثر من مؤسَّسة، وأكثر من باحث عربي وغربي، منها ما هو مجرد، ومنها ما هو في سياقات مشاريع، إما بهدف التطوير وإما بهدف دراسات لبنية المجتمعات واستجابتها للمتغيرات، وتفاعلها مع مؤسساتها الوطنية.

أما السياقات التي تناولتها المبادرة وجامعة كوبنهاغن، فقد جاءت لتكون مرجعاً لرسم مستقبل شكل العلاقة بين المواطن وأمنه بعد رفع شعارات التغيير، واجتراح مفاهيم جديدة لما كان يسمى أنظمة بوليسية أو استبدادية، إذا كان ذلك ينسجم مع مشروع القائمين على البحث، ويخدم مصلحتهم ضمن هذه الأنظمة.

إنّ مشاريع تقويض الأنظمة السياسية القائمة في الدول التي تم استهدافها أخذت بالضرورة دور الأمن بالحسبان، بإيهام الشعوب بأنَّ التغيير والتحول الديموقراطي يجب أن يترافق مع رسم صورة جديدة للعلاقة بين المواطن والشكل الجديد للدولة ومؤسساتها. لذلك، رأت أن إضعاف بعض الأنظمة كان بتأليب الشعوب على الجيش، كما هو الحال في مصر والجزائر وليبيا وسوريا والعراق. وفي دول أخرى، يتم إيلاء الجيش أهمية بالغة واستغلال موثوقيته الشعبية لتقديمه كشكل توافقي بديلاً من الأنظمة السابقة أو المستهدفة، كما هو الحال في لبنان، ولاحقاً في السودان.

وبما أننا أتينا على ذكر السودان، فهو النموذج الأبرز للشوارع العربية التي شهدت احتجاجات ومطالب بالتغيير، فكانت النتيجة تقديم المؤسسة العسكرية كبديل وحل، وإيهام الجماهير السودانية التي نزلت إلى الشوارع بأنَّ "ثورتها" لا يسع أحد حمايتها سوى العسكر، فكانت النتيجة أمنوقراطية وتوقيع اتفاق مع "إسرائيل"، لتدخل السودان في قائمة الدول التي تمَّ تحييدها من الصراع مع الصهيونية والقوى الراعية لدولتها.

هذا هو النموذج الذي يتم العمل عليه لبنانياً، كما يبدو من دلائل عديدة، منها الدعم الأميركي غير المسبوق للجيش اللبناني، واعتباره المؤسّسة الوحيدة التي لم يطلها الفساد، والقادرة على تجاوز المحاصصة الطائفية وحفظ أمن لبنان، وخصوصاً بعد تشرين الأول/أكتوبر 2019، إذ اتّبع الجيش سياسة الحياد، بل إنّ المتظاهرين كذلك، وما يمثلونه من قوى ومؤسسات مجتمع مدني ومنظمات غير حكومية، أعلنوا في أكثر من مقام التفافهم حول الجيش واستثناءه من شعار" كلن يعني كلن"، فهل سيكون تقويض لبنان وضرب مقاومته بتقديم الجيش عما سواه؟ وهل للتركيبة اللبنانية للحكم بشكلها الحالي بديل يتم إعداده في لحظة حسم قد تكون قريبة؟

*الأمنوقراطية: تمَّ التعرّف إلى هذا المفهوم في بادئ الأمر من خلال دراسة لمبادرة الإصلاح العربيّ بعنوان "الدراسات الأمنوقراطية". وفي البحث عن أصله واشتقاقه، لم أتوصّل إلا إلى كاتب سوداني هو حيدر إبراهيم علي، كان أول من استخدمه قبل نشر المبادرة للدراسة، ليليه الكثير من المقالات لكتّاب عرب استخدموه للحديث عن الأنظمة التي يعد فيها الأمن هو الحاكم الفعلي وأداة النظام الاستبدادي، بل ذهب بعضهم إلى الحديث عن دور الأمن في ما أسموه بالثورة المضادة بعد ما سمي بـ"الربيع العربي".