"سليماني" قائد الجبهتين.. الميدان والحياة

لم يكن أحد مثلها تلك الليلة. إنها زينب قاسم سليماني؛ سر أبيها، ونقطة ضعفه، والمدللة في حضرته. كانت تتحسّس قدومه قبل أن تطرق يده باب المنزل. تنصهر في شوقها إليه وخوفها عليه كلما ودعها مغادراً إلى الجبهة.

  • سليماني كان أباً رؤوفاً وعطوفاً على أبناء الشهداء
    سليماني كان أباً رؤوفاً وعطوفاً على أبناء الشهداء

كانت ليلة هادئة كسائر الليالي في طهران. كل شيء يبدو طبيعياً. صمتٌ يلف شوارع المدينة بعد نهارٍ صاخب. سكونٌ يغمر البيوت والأبنية، والناس نيام. أما هي، فحالها مختلف. قلبها يحدثها بأن خطباً ما أصاب والدها، وأن حدثاً غير عادي ينتظر إيران. شعورٌ غريبٌ يجتاحها. يبعثر كيانها. يقبضُ على روحها. تتمتمُ ببعض الدعوات، ثم تستغفرُ الله في سرها. هاتفها اللواء قاسم سليماني عند الساعة العاشرة مساءً من بغداد. كانت تعلم بأن الأوضاع في العراق حسّاسة وخطرة، لكنه طمأنها إلى أن الأمور ستكون بخير.

لم يكن أحد مثلها تلك الليلة. إنها زينب قاسم سليماني؛ سر أبيها، ونقطة ضعفه، والمدللة في حضرته. كانت تتحسّس قدومه قبل أن تطرق يده باب المنزل. تنصهر في شوقها إليه وخوفها عليه كلما ودّعها مغادراً إلى الجبهة. تحوم حوله مثل فراشة لامست أطراف النور. كانت تنتمي إلى كل تفاصيله؛ سجادة صلاته، وسبحته، ومصحفه، وكتاب أدعيته، ومكان جلوسه الخاص، ورائحته التي تعبق في كل ركنٍ وزاوية.

يضيق المكان بزينب، فتقرر التوجه إلى منزل أختها. تخطو مسرعةً وكأنها تجرّب قدميها للمرة الأولى. الزمن يتآكل. عقارب الساعة في سباق محموم. إنها الواحدة بعد منتصف الليل. تنظر زينب إلى هاتفها. يستوقفها فيديو لاستهداف سيارة في مطار بغداد. تتسارع دقات قلبها، وإذ بالهاتف يرن حاملاً نبأ استشهاد والدها ورفيق دربه أبو مهدي المهندس في غارة أميركية. حل النبأ كالصاعقة. الصدمة أقعدتها. شعرت بأن قلبها ينخلع من صدرها. كانت ترفض أن تصدق.

تتوالى الصور على شاشات التلفزة. الوجوه مشدودة نحوها. الأعين فاضت بالدموع. صوت الحزن يرنّ في كل شبر من إيران. الأبواب فتحت على مصرعيها. اندفع الناس نحو الشوارع، لا يريد أحد أن يصدق النبأ، فسليماني، في نظر الإيرانيين، يتجاوز صفة القائد العسكري. هو في أعينهم أسطورة في زمن غابت عنه الأساطير. يدرك العارفون بتركيبة العقل الإيراني بأن هذا الشعب لا يطلق التوصيف الأسطوري على شخصية عسكرية جزافاً. الأمر يتطلب شروطاً وظروفاً استثنائية، وكلها اجتمعت في سليماني.

اهتز العالم على وقع الفاجعة. غضب ودعوات للثأر في إيران. تأهب وترقب للرد في واشنطن. فرحة مكتومة الأنفاس في تل أبيب، وطمأنينةٌ في منزل سليماني الذي أعدّ عائلته لهذا اليوم الطويل؛ للوداع الأخير، لشهادة سعى إليها، فالعائلة كانت تعلم بأن ثمن رأسه مدفوعٌ سلفاً من قبل الإدارة الأميركية و"إسرائيل"، وأن ساعة الشهادة آتية لا ريب فيها، فسليماني يستحيل أن يموت على فراش المرض والعجز.

تزدحم المقالات التي تحاول سبر أغوار شخصية لواء فيلق القدس وقائده. أجهزة استخباراتٍ غربية وعربية سعت على مدى عقودٍ لفك شيفرة رجلٍ كان يقبض بيده على جبهات مفتوحة، ومحلّلون داروا وحاروا لحل هذا اللغز، ولكن قلة هم الذين تمكّنوا من ولوج عالمه الخاص، ليتعرفوا عن قرب إلى سليماني الإنسان الخلوق والمتواضع والمؤمن المتدين.

ستارٌ من الغموض والهيبة والرهبة كان يحجب الكثير من أسرار هذه الشخصية الكارزماتية وخصالها عن أنظار العالم. خلفه، كان يمارس سليماني أدواراً أخرى في جبهات الحياة، فهو الأب العطوف، والزوج المحب، والابنٌ البارُ بوالديه، والأخ السند، والصديق المخلص.

الانشغال الدائم والعمل المتواصل وفترات الغياب الطويلة لم تجعله يغفل عن حق عائلته وأهله عليه، فكان قريباً منهم على الرغم من بعد المسافات، وصديقاً لهم، وحريصاً على تعليمهم. وفّر لهم أجواء البيت الدافئ والغني بالقيم والمبادئ، وأثقل شخصياتهم بالمعرفة والدين. كان يُحبهم ويتودد إليهم. ينصحهم لا يوجّههم. يرشدهم لا يأمرهم.

سليماني الأسطورة عاش حياة متواضعة تخلو من مظاهر الترف. لم يترك لأولاده قناطيرَ مقنطرةٍ من الذهب والفضة كتلك المكدسة في أرصدة الزعماء والملوك والأمراء، ولا عقارات وقصوراً فارهة في أحياء باريس ولندن، ولا عروشاً ومناصب. أورث أبناءَهُ تاريخاً وعزاً وفخراً، وألبسهم ثوب الأخلاق والعفة، وغرس في نفوسهم حب فلسطين والولاء للمقاومة ونهجها.

لم يكن سليماني والداً لأبنائه فحسب، بل كان أباً رؤوفاً وعطوفاً على أيتام الشهداء. فيديوهات كثيرة انتشرت بعد استشهاده توثق هذه العلاقة، فالرجل الصلب صاحب البأس والقوّة، الذي كان يقف كالأسد في مواجهة الأعداء، كان يبكي كالطفل عند استشهاد أحد المجاهدين، وكانت دمعة اليتيم تلسع قلبه بملوحتها. كان يحرص على زيارة عوائل الشهداء ولقائهم باستمرار. كان أول المعزين عند ارتقاء شهيد وأول المواسين لأسرته. يكفكف دموع الأيتام الصغار، يحضنهم، يشمهم، يلعب معهم، يمازحهم، ويسرق من زمن المعارك لحظات ليغمر قلوبهم بدفء الأبوة.

لأربعين عاماً كان سليماني يقف وجهاً لوجه أمام الموت. كان والخطر رفيقين. لم يعرف التعب. لم يركن إلى الراحة. لم تهدأ الثورة في قلبه. كان يخرج من معركة ضد الإرهابيين ليخوض أخرى. ديناميكيّته وهمّته العالية جعلته مكّوكاً علميّاً وعمليّاً وجهاديّاً، تارةً يكون في بغداد، وتارةً أخرى ينتقل إلى سوريا، وما هي إلا ساعات حتى يشاع خبرٌ عن زيارته للضاحية الجنوبية في بيروت ولقائه الأمين العام لحزب الله.

كان قائداً فريداً على امتداد المنطقة، دائم الحضور في المعارك والصفوف الأمامية. الجبهات وجهته، والميدان مكتبه، والسيارة مقره المتنقل. يستغل المسافات الطويلة ليغفو. كان هادئ الطباع ومتواضعاً في تعامله مع المجاهدين. يعانقهم فرداً فرداً قبل كل معركة. يتقدمهم، ويفترش الأرض معهم، ويجالسهم، ويقاسمهم رغيف الخبز والحكايات والضحكة والدمعة والأحاديث وهموم الحياة. كان يثني عليهم ويشجعهم، وينحني أمامهم، ويلتمس منهم المسامحة، ويصف نفسه في حضرتهم "بأصغر جندي"، وهذا ما كان يدفع المجاهدين إلى محبّته وانتظاره بشوق.

قاسم سليماني تاريخٌ لا يختصر بأسطر. هو الأب، والمربّي، والقائد النموذجي الذي تخرّج من مدرسته مئات القادة والمجاهدين، ليكملوا المسيرة من بعده نحو القدس، وهو الموقف الثابت في زمن الخضوع والانبطاح أمام عار التطبيع، والرعب القاتل الذي سيبقى يطارد مشاريع واشنطن وتل أبيب وأذنابهما في المنطقة.

الحكاية لم تنتهِ بعد. الأيام القادمة ستكشف المزيد من أسرار هذا الرجل العظيم، وسيبقى اسمه خالداً في ميادين نصرٍ هندمها بيديه، واستودع فيها مؤن المقاومة لفصول القحط المقبلة. من قال إن سليماني مات! العظماء لا يموتون، فبعد الشهادة يبدأ فصلٌ جديدٌ من الحكاية.

عامٌ مرّ على إغتيال الشهيدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، تغييرات كبيرة حصلت، ومعطيات تبدلت.. في الميادين نتذكر حادثة الاغتيال على أنها "جدارة الحياة وشهادة العلا".