رفض الاعتذار عن حرب الجزائر.. سمّ في حنجرة فرنسا

بين اليمين المتطرف واليمين المعتدل واليسار، فشلت إدارة ماكرون في تمييز نفسها واتخاذ موقف مسؤول له الكثير من الأبعاد راهناً ومستقبلاً.

  • ستبقى الحرب الاستعمارية على الجزائر في حلق فرنسا، كما يقول أبناء الجزائر
    ستبقى الحرب الاستعمارية على الجزائر في حلق فرنسا، كما يقول أبناء الجزائر

في منتصف تسعينيات القرن الماضي، قال لي أحد الصحافيين الجزائريين المقيمين في باريس (أتحفظ على ذكر اسمه بناء على طلبه) إنه يستمر في سماع حشرجة أجداده المذبوحين في الجزائر على يد فرق القتل الخاصة الفرنسية إبان مرحلة حرب التحرير. لم يتخلص هذا الشاب من الذكريات التي رواها له والده عن أيام الدم تلك.

ليس ذلك كل شيء في مأساة هذا الجزائري المثقف الذي اضطر إلى مغادرة بلاده للالتحاق بالجامعة في فرنسا، فقد كان شاهداً على يوم أسود آخر لأبناء بلده، حين قتل الكثير منهم وألقوا في نهر السين. ففي 17 تشرين الأول/أكتوبر 1961، خرج عشرات الآلاف من المهاجرين الجزائريين في باريس في تظاهرات سلمية، للاحتجاج على قرار حاكم الشرطة موريس بابون، الذي أصدر أوامره بمنع خروج الجزائريين في تظاهرات دعم الثورة في بلادهم، ما أدى إلى مقتل وفقدان المئات وإصابة الآلاف واعتقال نحو 30 ألفاً.

رفض الدولة الفرنسية الاعتذار عن احتلال الجزائر أخيراً دفعني إلى الاتصال بالصحافي نفسه لسؤاله عن رد فعله، فأحالني إلى ما قاله قائد كوماندوز فرنسي لرجاله أثناء حرب الجزائر من أجل الاستقلال: "مسموح لكم بالاغتصاب، لكن افعلوا ذلك بتكتم".

وأضاف: "كيف لي أن أعلق على موقف يفتقد إلى الأخلاق، وما زال يرفض نزع فكرة المغتصب من رأسه! فرنسا لا تريد الاعتذار، لأن هذه الخطوة ستفتح ملفاً جحيماً عليها من النواحي الأخلاقية والسياسية والثقافية والاقتصادية".

بالفعل، إن باريس، ورغم أن رئيسها الحالي إيمانويل ماكرون وصف مرحلة الاستعمار للجزائر بكونه "جريمة ضد الإنسانية"، ليست مؤهلة بنيوياً لتجاوز الماضي والمصالحة مع ذاتها. مصالحة الذكريات التي اقترحها ماكرون منذ فترة على الجزائر كانت وهماً وتسويفاً للوقت وإهداراً للطاقات. رفض الاعتذار الأخير والديباجة الطويلة لممثل فرنسا في لجنة مصالحة الذكريات زادا الطين بِلّة، وحفرا عميقاً في العمود الفقري للجزائريين الذين توهموا بتقدم باريس خطوة نحو بلسمة جراح الشعب الجزائري.

تقول جريدة "لوموند" في هذا الصدد إن الجدل مستمر بما يخص الذكريات حول الجزائر ودورها في تسميم الحياة السياسية في فرنسا. لأكثر من 40 عاماً، ظل هذا الموضوع محل جدل بين معسكرين. من ناحية، يظل أولئك الموجودون في اليمين وفي أقصى اليمين، على حنينهم إلى عظمة فرنسا الاستعمارية، ولا يريدون بأي شكل من الأشكال إنكار ما يزعمون أنها مهمة حضارية حملتها الإمبراطورية. من ناحية أخرى، يدافع اليسار عن استقلال الشعوب والنضالات ضد الاستعمار، ويحث الجمهورية على الاعتراف علناً بأخطائها وبناء رؤية مختلفة لتاريخها.

بين اليمين المتطرف واليمين المعتدل واليسار، فشلت إدارة ماكرون في تمييز نفسها واتخاذ موقف مسؤول له الكثير من الأبعاد راهناً ومستقبلاً، ولم تستطع أن تطور موقف رئيسها خلال حملته الرئاسية في العام 2017، حين أكد أنه كان من الضروري تقديم "اعتذارنا إلى أولئك الذين ارتكبنا هذه الأعمال تجاههم". بقي على ماكرون أن يقطع المسافة الفاصلة عن الاعتذار عن الحرب والاحتلال، لكنه لم يفعل.

لماذا؟ لأن ماكرون، وكما يقول باحثون في الموضوع، يخشى أولاً أن يؤدي الاعتذار إلى خسارة جزء من بيئته الانتخابية الميالة إلى التطرف ورفض تقديم تنازلات أمام الجزائر، وبالتالي سيكون قد قدم خدمة مجانية لليمين المتطرف واليمين المعتدل وقاعدتهما الانتخابية مع انعكاس ذلك على توازنات الانتخابات الرئاسية المقبلة في العام 2022. ففي المؤسسات الفرنسية، لا يزال هناك تيار عريض يحمل الخطاب المرير والمثير للاستياء حول "خسارة الجزائر الفرنسية"، ومن شخصيات هذا التيار من هو مؤثر في السياسة والثقافة والإعلام والاقتصاد، وبالتالي لا يريد ماكرون المراهنة على خسارة نخب من هذا النوع.

الهدف الانتخابي يقع في المقام الأول بالنسبة إلى ماكرون. ولذلك، يتجاهل حركة اليسار الفرنسية التي تستمر في الضغط لاعتذار فرنسا عن حرب الجزائر وإثبات خروجها من الفكرة الاستعمارية القديمة انتصاراً للديموقراطية والعدالة. تجاهلٌ هدفه منع اليسار من تسجيل نقاط سياسية في مرحلة حساسة تتقارب فيها تيارات اليسار المختلفة في معركة التحضير للرئاسة المقبلة.

ستبقى الحرب الاستعمارية على الجزائر في حلق فرنسا، كما يقول أبناء الجزائر، فإما أن تلفظها فتتطهر وتتصالح مع التاريخ، وإما تستمر في حنجرتها فتتعفن وترتفع سمّيتها.