عمَّ تبحث أنقرة في بغداد؟

يبدو أنّ الأتراك اطمأنوا كثيراً إلى حصولهم على صفقة مشروع تطوير مطار الموصل بعد الطمأنة التي سمعوها من الكاظمي في أنقرة، ولم يتوقعوا أن تأتي الأمور بخلاف ذلك.

  • وزير الدفاع التركي فور وصوله إلى بغداد: أنقرة تحترم سيادة أراضيه، بيد أن الإرهاب في شماله يمثل تهديداً للبلدين
    وزير الدفاع التركي فور وصوله إلى بغداد: أنقرة تحترم سيادة أراضيه، بيد أن الإرهاب في شماله يمثل تهديداً للبلدين

في الـ13 من شهر آب/أغسطس 2020، كان مقرراً أن يقوم وزير الدفاع التركي خلوصي أكار بزيارة رسمية إلى العراق للتباحث مع كبار المسؤولين العراقيين حول جملة من القضايا والملفات الأمنية في الدرجة الأساس، والتي تشكل محور اهتمام الطرفين، إلا أن الحكومة العراقية بادرت في اللحظات الأخيرة إلى إلغاء الزيارة على خلفية مقتل عدد من الجنود والضباط العراقيين جراء عمليات عسكرية نفَّذها الجيش التركي في الأراضي العراقية، تحت ذريعة مطاردة عناصر حزب العمال الكردستاني التركي المعارض (PKK).

والآن، وبعد أكثر من 5 شهور من الأخذ والرد، جاء أكار إلى بغداد على رأس وفد رفيع ضم رئيس هيئة أركان الجيش التركي الجنرال يشار أوغلو وقادة عسكريين كباراً، وعقد الوزير التركي لقاءات مفصلة مع نظيره العراقي الوزير جمعة عناد، ورئيس الجمهورية برهم صالح، ورئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي، ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي.

وبحسب المصادر الرسمية في كل من بغداد وأنقرة، تمحورت المباحثات الرسمية حول التعاون الأمني والعسكري ومكافحة الإرهاب بين الطرفين، وهي إشارة واضحة جداً إلى حزب العمال وتبعات وآثار ومخاطر تواجده وتمركزه في مساحات من شمال العراق، وتحديداً ضمن حدود إقليم كردستان الذي يتمتع بإدارة ذاتية شبه مستقلة.

وفي هذا الشأن، صرح وزير الدفاع التركي فور وصوله إلى بغداد بأن "أنقرة تحترم وحدة العراق وسيادة أراضيه، بيد أن الإرهاب في شماله يمثل تهديداً للبلدين، وأن التعاون والتنسيق يؤديان دوراً مهماً في مكافحة التنظيم الإرهابي؛ حزب العمال الكردستاني".

وبما أن زيارة وزير الدفاع التركي إلى بغداد جاءت بعد شهر واحد من زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى أنقرة، فمن الطبيعي أن تكون زيارة الكاظمي قد أزالت بعضاً من سوء الفهم وتكدر الأجواء، وبالتالي مهّدت الأرضيات لزيارة أكار، ولا سيما أن الكاظمي حظي والوفد المرافق بحفاوة بالغة من قبل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وتلقّى وعوداً بدعم مالي سخي من أنقرة.

ومهما كانت الأجواء إيجابية، وآفاق التفاهم بين بغداد وأنقرة واسعة ورحبة، والمصالح عميقة، فلا شك في أنَّ هناك حقائق لا بد من أخذها بعين الاعتبار، ولعل بعضها كنا قد أشرنا إليه وتناولناه في مقالات سابقة، منها "العلاقات التركية - العراقية تحت المجهر.. هل تثمر زيارة الكاظمي لأنقرة؟".

من هذه الحقائق أن ملف حزب "PKK" يعد ملفاً شائكاً ومعقداً، وأن خيوط التحكم به خارج قدرة الحكومة العراقية، وإن كانت قوية ومؤثرة، وكذلك خارج قدرة الأحزاب والقوى الكردية العراقية التي ترتبط بعلاقات جيدة مع أنقرة، كما هو الحال مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، إذ إن حزب العمال تمكَّن خلال الأعوام الستة الأخيرة من التمدد والانتشار في بعض مناطق نفوذ الحزب الديمقراطي من دون أن يفعل الأخير شيئاً.

وتتمثّل الحقيقة الأخرى في أنّ التداخل والتشابك بين الملفات الأمنية والاقتصادية والمائية غالباً ما يصعّب حلها أو حتى حلحلتها، والدليل على ذلك أن ملف المياه بين بغداد وأنقرة ما يزال على حاله رغم تشكيل الكثير من اللجان، ورغم أنه كان يتصدر معظم الاجتماعات واللقاءات العالية المستوى طيلة الأعوام الأخيرة المنصرمة، وآخرها اجتماعات الكاظمي مع إردوغان في أنقرة في منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي.

إلى جانب ذلك، فإن لتركيا منافسين وخصوماً في مختلف الساحات التي تنشط وتتواجد فيها أو التي تتطلع إلى الوصول إليها والحصول على مواطئ قدم فيها. ولعل العراق من بين أبرز الساحات التي يتجلى التنافس والتدافع بين عدد من الأطراف فيها، وتعد تركيا واحدة من تلك الأطراف، من أجل الحصول على مكاسب وامتيازات سياسية وأمنية واقتصادية واستراتيجية.

 على سبيل المثال لا الحصر، فازت شركة "Aeroports de Paris Ingenierie" الفرنسية مؤخراً بمشروع إعادة إعمار مطار الموصل على حساب شركة تركية، في أحدث صراع بين البلدين على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مثلما عبّر بعض الساسة والمراقبين.

وقد كانت تركيا تتطلّع إلى ذلك المشروع بفارغ الصبر منذ العام 2019، كجزء من خططها الطموحة للمشاركة بشكل كبير في إعادة إعمار العراق بعد سيطرة تنظيم "داعش" الإرهابي على عدد من المدن العراقية، من بينها الموصل، وكجزء من طموحاتها وخططها التوسعية أيضاً، ولا سيما أن هناك إرثاً تاريخياً يربطها بالعراق.

ويبدو أنّ الأتراك اطمأنوا كثيراً إلى حصولهم على صفقة مشروع تطوير مطار الموصل بعد الطمأنة التي سمعوها من الكاظمي في أنقرة، ولم يتوقعوا أن تأتي الأمور بخلاف ذلك. وما زاد استياء صناع القرار السياسي التركي هو أن الصفقة رست على خصومهم الفرنسيين وليس غيرهم.

 قد يكون التنافس والسعي للحصول على مشروع إعمار مطار الموصل نزراً يسيراً جداً من طبيعة الحراك والتوسع التركي بمختلف الاتجاهات، والذي أدى إلى تصاعد حدة الخلافات ووتيرتها عمودياً وأفقياً بين أنقرة والآخرين، وهو ما يعني بصورة أو بأخرى بقاء الملفات والقضايا الخلافية مفتوحة، ولا سيما ملف أمني كبير وخطير كملف حزب العمال الكردستاني، لأن من الطبيعي أن يتوجّه خصوم أنقرة ومنافسوها إلى تقديم المزيد من الدعم والإسناد له، من أجل إشغالها واستنزافها بأقصى قدر ممكن، ناهيك بأنّ هناك أصواتاً داخلية ترتفع وتعلو بين الفينة والأخرى من قوى سياسية معارضة وبعض أوساط الشارع التركي، وتطالب بضرورة إيجاد سبل ووسائل أكثر عملانية وأقل كلفة وخطراً للتعاطي مع حزب "PKK"، ولا سيّما أنّ تجربة السنوات العشرين أو الثلاثين الماضية أثبتت بما لا يقبل النقاش فشل الحكومة التركية في تحجيم الحزب، ناهيك بالقضاء عليه بالكامل، رغم أن زعيمه الأول عبد الله أوجلان يقبع في سجن انفرادي منذ العام 1999 في جزيرة إمرالي وسط بحر مرمرة.

من حقّ تركيا أن تبحث عن حماية أمنها القومي وصيانة نظامها السياسي، بصرف النظر عن إيجابياته وسلبياته وصوابه وخطئه، بيد أن ما تبحث عنه من الصعب جداً أن تجده في بغداد الآن، مثلما لم تجده قبل ذلك، سواء جاء وزير الدفاع خلوصي أكار أو رئيس المخابرات هاكان فيدان أو حتى الرئيس إردوغان نفسه.