الأزمة السّياسيّة في تونس: هل بدأ النّظام السياسيّ البرلمانيّ يلفظ أنفاسه الأخيرة؟

يجمع التونسيّون على ضرورة وضع السّلطة في يد رئيس يختارونه، وفق ما تشير إليه استطلاعات الرأي والمزاج العام التونسي، وهو ما يعرفه سياسيو البلاد وأحزابها جيّداً.

  • الأزمة السّياسيّة في تونس: هل بدأ النّظام السياسيّ البرلمانيّ يلفظ أنفاسه الأخيرة؟
    يدفع الجميع الأزمة إلى حافة الهاويّة لتحسين شروط أيّ حوار وطنيّ

من الواضح أنَّ العلاقة بين مؤسّسات الدّولة الثلاث في تونس، رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان، دخلت منعطفات خطيرة وأكثر حدةً مما شهدته البلاد في الأشهر الأخيرة من حياة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، عندما انفصل رئيس الحكومة آنذاك يوسف الشاهد عن حزبه "نداء تونس"، ودخل في صراع مع الرئيس الراحل.

اليوم، أعيد السيناريو نفسه تقريباً، فالمشيشي الذي اختاره رئيس الدولة لتشكيل حكومة، واختار بنفسه عدداً من وزرائها، خيّر بدوره بين الاصطفاف إلى جانب حزامه الحزبي والابتعاد تدريجياً عن جلباب الرئيس، إلى أن وصل به الأمر إلى إجراء تحوير حكومي أقال بموجبه الوزراء المحسوبين على قيس سعيد، وهو ما قطع حبل الودّ بين الرجلين، وأدخل البلاد في أزمة سياسية تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، وتتضاءل معها فرص الحلّ.

إنّ التّصعيد الّذي قام به هشام المشيشي بإقالته وزراء الرئيس، قابله رئيس الدولة برفض أداء الوزراء الجدد للقسم، متذرّعاً بحجج دستوريّة وقانونيّة لا تخفي الخلفيّة السياسيّة والشخصية للصراع. وفي وقتٍ كان المتابعون يتوقّعون حصول وساطات لتقريب وجهات النظر بين الرئيسين، عكس المشيشي الهجوم على الرئيس، عندما اختار وضع وزراء حاليين على رأس بعض الوزارات الشاغرة، وإعفاء وزراء الرئيس رسمياً، فأي حلول ممكنة للأزمة التونسية!؟

لا يخفى على أحد أنَّ الرئيس سعيد متبرم من عدم تناسب صلاحياته الدستورية مع ما حصل عليه من أصوات التونسيين في الانتخابات الرئاسية، أو كما يسميها في تصريحاته، "الشرعية والمشروعية". لذلك، أراد اغتنام الفرصة التاريخية التي منحت له بتعيين رئيس للحكومة بعد فشل الحزب الأول في تمرير حكومة الحبيب الجملي.

لذلك، ذهب متابعون في اتجاه اقتراح تنظيم استفتاء شعبي لتغيير نظام الحكم من شبه برلماني إلى رئاسي، غير أن هذا المقترح يبقى رهين التوازنات داخل البرلمان، فالدستور التونسي ينصّ على أنّ المرور إلى الاستفتاء الشعبي يتطلّب موافقة ثلثي البرلمان أولاً.

يعلم قيس سعيد جيداً أنّ أيّ مقترح منه لتعديل النظام السياسي، بما يمكّنه من الحصول على المزيد من الصلاحيات، سيصطدم برفض أغلبية البرلمان الَّذي تسيطر عليه كتل وأحزاب مناهضة له شخصياً، وللنظام الرئاسي بشكل عام، فحركة "النهضة"، مثلاً، تعلم أن تغيير النظام السياسي سيحدّ من تحكّمها بالمشهد في البلاد، إذ إنَّها تستفيد من حصولها على المراتب الأولى في التشريعات الأخيرة، وهو ما يمكّنها من عقد تحالفات وتفاهمات لإدارة المشهد.

أما في حال تحوّل مركز الحكم إلى قصر قرطاج، فإن "النهضة" تعلم أنها لا تمتلك فرصاً للفوز بمنصب الرئيس. لذلك، ستسعى إلى إجهاض أي مقترح من قيس سعيد في هذا الاتجاه، كما أنَّ رئيس الدولة لن يقدم على الدخول في معركة من هذا النوع مع قصر باردو المنيع حالياً في ظلّ التوازنات القائمة.

يدفع الجميع الأزمة إلى حافة الهاويّة لتحسين شروط أيّ حوار وطنيّ قد يجبر الجميع على القبول به عند الأشراف، في مقابل السّقوط في خندق العنف أو الاحتجاجات الشعبية العارمة اللذين يحدقان بالبلاد، ولكن أي نقاط سيتناولها الحوار الوطني المقبل؟

لا مؤشرات حالياً على إمكانية اللجوء إلى هذا الحوار، لكن إطالة أمد الأزمة ومعركة كسر العظام قد تجعل هذا الحل المخرج الوحيد منها. سيطرح قيس سعيد وحلفاؤه ضرورة تعديل النظام الرئاسيّ ومنح الرئيس صلاحيات أكبر، وقد تقبل "النهضة" بهذا المقترح، لكنَّها ستحاول أن تحافظ على بعض الصلاحيات المهمة للبرلمان واقتسام السلطة مع الرئيس، وستضغط في الوقت نفسه من أجل تعديل النظام الانتخابي أيضاً، بما يمكّن الأحزاب الكبيرة، وهي من بينها، من نيل أكبر عدد من المقاعد، في مقابل القضاء على أيّ أمل للأحزاب الصغرى والمتوسطة والمستقلة في الحصول على مقاعدة مؤثرة في البرلمان.

لطالما انتقدت حركة "النّهضة" النّظام الانتخابيّ الحالي الَّذي يعتمد على مبدأ "أكبر البقايا"، وهو باختصار نظام انتخابيّ منح الأحزاب الصّغرى حظوظاً للتواجد في البرلمان؛ ففي مجلس نواب الشّعب الحالي والسابق، نجد نائباً حصل على 20 ألف صوت يجلس إلى جانب نائب لم يحصل سوى على 2000 صوت. ولو تمَّ تنقيح هذا القانون، لوجدنا حزبين كبيرين يسيطران على البرلمان، وهو ما ستسعى إليه "النهضة"، في مقابل موافقتها على تنقيح النظام السياسي ومنح الرئيس صلاحيات أكبر.

يتّجه المشهد نحو هذه المعادلة أو المقايضة. وبصرف النظر عن الأزمة الحاليّة، فإنَّ هنات النظام السياسي الحالي البرلماني بدأت بالظهور منذ سنوات، إذ تشتّتت السلطة بين أحزاب بعضها هلاميّ ومفتّت، وبعضها الآخر متصارع داخلياً، ما حرم تونس من استقرار سياسي ونهضة اقتصادية.

يجمع التونسيّون على ضرورة وضع السّلطة في يد رئيس يختارونه، وفق ما تشير إليه استطلاعات الرأي والمزاج العام التونسي، وهو ما يعرفه سياسيو البلاد وأحزابها جيّداً، لكنّهم لن يوافقوا عليه إلا في إطار حزمة من التفاهمات وضمن حوار وطنيّ شامل.